الأحد: 01/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

صيف أجمل على الطريق

نشر بتاريخ: 07/09/2015 ( آخر تحديث: 07/09/2015 الساعة: 12:51 )

الكاتب: المتوكل طه


-1-
لا معنى لهذا كلّه ! فالموسيقى قريبةٌ إلى درجة التفشّي والصوحان ! وتكاد الشجرةُ أن تُصاب بالإضطراب من هذا الصخب الموقَّع الحاد ! لماذا لم تكوني حريرية تتدفّقين مثل ماء النبع بين غصوني ، أو كالنسمة ناعمة الملمس ، كأنها جسد عروس ابتردت وتهيّأت للاشتعال !! أخاف على البلّور من العزف العنيف... ويكفي أنيّ أصَخْتُ السمْعَ لأتلقّى جروح رحيلك العميقة أيتها المعزوفة الغضبى .
-2-
إكْرع ما في الكأس، ولا تُبقي أي قطرة وتلَمّظ بسلافتها الحريفة، وافتح فَمك ومَرْوِح كفّك وحَرِّكها أمام وجهكَ، لعلك تخَفّف طبقة الجمر السائل اللاذعة التي أصابت مغارة فمك كلّها.. وها انتَ تنفخ كأنك تطردُ حرارة النعناع أو سخونة اليانسون أو لفحة الحبق البريّ . ومُجَّ النار عن آخرها ولا تُخْرِج من الفتحة المزمومة قلمَ الدخان الهلاميّ الخفيف، إحبِسْه في صدرك، وراكِمْهُ حتى يصبح طبقة من رماد ، تصلح لأنْ تخطّ عليها خربشات التأمّل الحزين وانتَ وحدكَ.. وحدكَ.. في كل مكان .
-3-
تتركُ الغابةُ ظلالها على الجسد . ينفح الليمونُ روحه تحت الإبْطين . تتركُ الموقدةُ شعلتها في المكْمَن الساهي . ينام لحنُ الكمنجة العسليّ على فتحة الشفتين . ينسى الشلاّلُ ثوبه على أكتافها . يؤثّث النحلُ قفيره في شجر الفخدين . وتكون ابنة النجمة قد ألقت نورها في فم النائمة . والغمام الساخن قد لثم التلّتيْن . واستقَرّ البرق على القدمين . وتلعثم الرّعد في المجرى الضيّق . واشتعل الخُزامى خلفها وراح يتنفّس في ظهرها ، وثمة حصان يصهل في الأضلاع وأفعى تفحّ على الزّغب الأشقر.. والشاعرُ لا يرى طريقه.. ويفقد اللغة ، ويكاد يكسر إصبعه .
-4-
العتمة طفل البحر .. الغارق، والدرجُ الحجري لا يكذب ، فهو غشيم منذ نزعوه من جدّتة الأرض، ورأوا أمّه الصخرة ! لكنهم أمعنوا المعول في وجهها . والطفل المهاجر عتمة الورق المعدني، الذي تخلّى عن الحِبْر والدواة ، ولم تعد الحروف إلى سويّتها في الكلام .
والبحر ريش طاووس مهزوم، عبثيّ متشاوف، لا وزن له، رفعوه على المصاطب ليصدّ الغزالة المتعامدة الناغرة ، ليلطّف أجواء البيلسان وعصائر البَرّاد السُّكّري ، الذي كان . والمعنى ؟ وهل بقي أمام ما يجري من معنى ! وهل ظلّ بعد هذه الإبادة من فَهْمٍ ؟
إصمتْ ولا تكمِلْ الجملة .. فالهاوية أكثر اتساعاً من الأمل ، وأخاف أن أفقد هذا اليتيم .
-5-
لماذا لا تبقى اللّذةُ مثل الندبة ؟ ولماذا ننسى المتعة ويفوتنا سحرها الباذخ ؟ ولماذا يبقى القهْر كأنه مملكة نملٍ يتوالى من ثقوب الروح ويأكل قمح القلب ؟
كم من سفحٍ تَجَرّعتُ زنبقه ومضغت الآس على حجارته الرّخوة ؟ وكم من ثلج ذوّبته حتى أغرقني وغيّبني.. وتركني نائماً على تلك الغيمة ؟ وكم من نهر جاءني وشقّ مجراه في صدري وألقى حليبه في أضلاعي ؟ وكم من مضغة شَهْدٍ فغْمتها وصهرتني بحلاوتها المعجزة ؟ وكم من ساحلٍ عصرتُ بحرَهُ وتركته مسجوراً أو رماداً على الرمال المدعوكة ؟ وكم من سماء احتللتها ومرّرت بلساني على دروبها وذوّبت المجَرّات وسيّلتها في البعيد ؟ وكم من دمعة شربتها طفقتْ من فجر السّحر المشقوح ؟ وكم من لباء تَرنّق في لهاتي وأنا في غيْبة اللسان الفصيح ؟ وكم من رعْدةٍ فَخَتُّ بها عنكبوت المستحيل، وعرفت ، لحظةً ، كيف تكون الجنّة ؟ وكم من وشْم أبيض استوطن شَعر رأسي ؟
.. وما زلتُ في صعود اللبلابة الفتيّة، أتطلّع من فتحة الخيال على أيائل ، تبكيك إلى حدِّ اليأس .
-6-
مَنْ يسرق منّي الفرح ؟
هيكل عظميّ ؟ شبح ؟ مومياء ؟ عفريت ؟ روبورت ؟ روح ملعونة ؟
كائن خرافي ؟ كابوس ؟ وباء ؟ غول ؟ سِحر أسود ؟
ومَنْ أحضر الأفعى ، ثانيةً ، للجنّة ، ليخرجنا منها ؟
مَنْ أعطى شرعية السِفاح في المعبد لهذا الشيء الناهب الغاصِب السارق الساطي المعتدي المُدّعي الساديّ المزوّر المستبيح الهامشيّ المُعتم المجرم السفّاح النبّاح الرجيم العدميّ العبثيّ الدمويّ مصّاص الأوردة والشرايين الهتّاك الفتّاك الجزّار الغدّار الوحشيّ الغبي الماشي إلى التّيهِ مّرة اخرى ؟
-7-
تدعوني إلى لوحتها الساطعة الزاخرة بكل الفصول ، فألمح الحرائق والمتاهات ،وكالعادة، أحاول أن أفيض لينطفئ اللّظى وأسعى لأن أعيدها من الحُمىّ إلى استقرار العافية والرّضا ، لتتنفّس الصعداء ،وتهدأ !! ويكون للسّهرة مذاق فَوَحان الريحان.. لكنها تدفعني بكلتا يديها، وما زال اللّون ينقط من أكمامها ! أيّ تناقض أيتها الرائشة المهزومة ؟
تبكي فأعرف الإجابة إنه نداء الحدود والمازوخيّة التي نربّيها مثل القطط في أحضاننا اليائسة .
-8-
دالية أوّل الصيف، ترهص بقناديل لامعة ! تتعجلّ القيظ حتى تنضج نسغ الضوء. أتخيل الثريّا وهي تتدلّى ، وأهشّ عنها الطنين وتطفّل الأجنحة التي تُلْحفُ على الشراب قبل توهّجه ! وأراقب السماء الخضراء المنفجرة بلّوراً خمرياً متماسكاً كدمعة العسل الدامي.. فأراني أتمدّد على الأريكة وأمامي طبق الزجاج المكوّر العذب ، وأهرسه بين أضراسي فيمتلئ فمي بعطْر الأرجوان الذائب ! وأثوب على طقطقة النار وهسيس السّعير الذي أتى على أعالي العريشة، وأبكي حبّات الجمر المتهاوي.. وأعود لأرى الدالية تنبض من جديد ، في صيف أجمل على الطريق .
-9-
ينبلج الصبحُ وزفاف الناسك قد ابتدأ مع عودة القوافل للساحات ، وثمة مَن تشتري الكحْلَ لعلّها تُغري صاحب الهالة الشفيفة.. فقد رأته في المنام يطلق لها عصفورة القلب ، ويعدها لبسط يده ، ويشملها بعباءته الشقراء !
وبعد أن انتهي الصنّاجةُ من قدْح الشّرر في الأرواح ، واختلي النورُ مع قمر النهار ، كانت صاحبة الإثْمد قد ألقت بنفسها على الصخور ، وخيط من كحلٍ بارد يشقّ وجهَها العاشق !
قيل إنها أحبّت مُتَبتّلاً لم يرها ، فعشقت شاعراً ، كانت الرّجفة قد مسّتهُ ، فلم ينتبه لحُمْرة وجنتيها .. فأخذتها الطيْرةُ إلى الهاوية .
وعندما رأى الشاعرُ جمْهرةَ الناس حولها ، تذكّر وجهاً كان يناديه ، وقوس الكحل المزجّج يلمع بالشغف .. ويناديه.. فبكى ، وما زال يبكي .