الإثنين: 04/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

كيف ينهض المثقفون العرب؟

نشر بتاريخ: 20/01/2016 ( آخر تحديث: 20/01/2016 الساعة: 15:42 )

الكاتب: سري سمور

(( هذا آخر مقالاتي في سلسة جعلتها للحديث عن المثقفين العرب وقد قلت بداية أنها جهد المقل، ولا أزعم أنني في هذه المقالة أجلب حلا سحريا، أو أضع مشروع استنهاض شامل للحالة المتردية للمثقف العربي في هذه المرحلة التي يشهد فيها التاريخ تغيرا جوهريا، وتتغير معه الجغرافية أيضا، ولكن هي محاولة للوصول إلى مفاتيح قد تقود إلى نهضة المثقف العربي، لعل وعسى أن يضطلع بدوره المأمول أو المفترض.))

في المقالات السابقة غلب على حديثي وصف الحالة التي وصل إليها المثقف العربي، وربما ظهر للقارئ أنها بكائية ورثاء، وهي في بعض جوانبها لا تبتعد عن ذلك؛ ولكن لا بد من محاولة وضع خطوط عريضة وتصور عام لخطوات تنفض غبار المراحل السابقة المتراكمة، ولا بد من التنويه أننا لا ينقصنا المثقفين كمّا أو نوعا، ولكن نفتقر إلى دور طليعي للمثقف، متسلحا بضمير حي متحللا من القيود التي كبلته، والتي بعضها ينبع من ذاته، وبعضها من مؤثرات ربما خارجة عن إرادته وقدراته وإمكانياته، وفي نقاط محددة أضع بعضا من مفاتيح أبواب أرى أنها ضرورية للتخلص من الجدب والقحط الذي ألمّ بدور المثقف العربي:-

1) ضرورة الاستقلال المالي: كان علماء الدين في القرون الخوالي، وفي زمن لم تكن الأمة قد وصلت إلى هذا الحد من الاستنزاف ولم تكن الأمم قد تكالبت عليها، بل كان لها ريادة ومنعة ويحسب لها ألف حساب من العدو الظاهر المعلوم، أو الذي يعلمه الله ولا تعلمه، كان هؤلاء العلماء يجسدون الكتلة المركزية للحالة الثقافية السائدة للأمة، ويهمنا من هؤلاء من استقل ماليا عن السلطة الحاكمة، والتي كانت-مع أخطائها والتحفظ على بعض سياساتها- حامية لبيضة الأمة وتعبر في غالبها عن ضمير مجموع أفرادها، ولكن كان لا بد من حالة استقلال مالي لعلماء الدين، والذين-أكرر- هم عصب الجسد الثقافي المركزي في تلكم العصور؛ فهذا سفيان الثوري –رحمه الله- يرد على من عاتبه في تقليب الدنانير قائلا مقولة أصبحت مثلا تتناقله الأجيال: دعنا منك، لولا هذه لتمندل القوم بنا تمندلاً، أي جعلونا مناديل تستخدم للمسح! وسفيان سيد العلماء العاملين في زمانه وقد أدرك العصرين الأموي والعباسي، أما سعيد بن المسيب-رحمه الله- فقال: لا خير فيمن لا يجمع المال، فيقضي به دينه، ويصل به رحمه، ويكف به وجهه؛ وقد كان يتاجر بالزيت كي لا يحتاج ويضطر للتنازل عن مواقفه، وهو من التابعين المعروفين، وهناك أمثلة أخرى لا يتسع المقام لذكرها وأكتفي بهذين فقط، كونهما قد امتحنا، ولكن مما أعانهما على الصبر على المحنة والثبات على الموقف بعد لطف الله ورحمته أنهما لم يكونا ممن يعتمد في مصدر رزقه على السلطان أو (رجال الأعمال)...ولا ننكر أن الحياة والظروف تغيرت وصارت أكثر صعوبة وتعقيدا، ولكن غالبية المثقفين صاروا صدى لصوت من يدفع لهم، سواء أكان جهة سياسية أو مؤسسة اقتصادية، أو جهة أجنبية حكومية أو غير حكومية من التي تدفع بسخاء والتي اخترقت المنطقة العربية أفقيا وعموديا ضمن برامج معينة، لا مجال للخوض في تفصيلاتها، ولكنها ذات أجندة خاصة بمن يقفون وراءها، ولا يمكن أن نسلم أو نصدق بسذاجة أن هدفها بريء تماما ويتعلق بنشر العلم والمعرفة وتشجيع البحث العلمي فقط لا غير، وهذه الجهات الأجنبية استطاعت استقطاب كثير من المثقفين العرب وتوجيههم مباشرة أو بالإيحاء الضمني؛ وعلى كل إذا كان هناك من سيعتبر الاستشهاد بالثوري وابن المسيب غير ذي صلة لاختلاف الظروف لتباعد الزمن؛ فها هو عباس محمود العقاد يستقيل من كل الوظائف الحكومية التي عمل بها، ويتوّج استقلاليته برفض جائزة الدولة التقديرية التي منحها له الرئيس جمال عبد الناصر وهي ذات قيمتين مادية ومعنوية...على المثقف الذي يريد النهوض بأمته أن يسعى قبل كل شيء لتحقيق اكتفاء ذاتي ولا يخضع للعطايا والهبات والتمويل المشروط؛ وإضافة إلى الاستقلالية فإن التعفف والزهد والتقشف أمور لا بد منها للمثقف الطليعي، ولا أعني بالتقشف هي تلك المظاهر والسلوكيات البوهيمية التي يتحلى بها بعض المثقفين، والتي صارت نوعا من (البرستيج الثقافي) والاجتماعي، ولا علاقة لها ببناء الأنموذج القدوة.

2) مقاومة الابتزاز والتصدي له:إن أي مثقف قد وقع في الزلل وهناك مادة لابتزازه يجب أن يتصدى ويقاوم وأن يفضل الفضيحة والتشهير على الابتزاز؛ وليشرع هو في الهجوم ويعلن أنه يتعرض للابتزاز لأن ثمة ما هو شائن في سلوكه المالي أو الأخلاقي، ومع أن هذا الاعتراف يبدو صعبا، ولكنه يبطل سلاح الابتزاز، أو يضعفه إلى حد كبير، وسينتقل من يبتز المثقف لأسلوب آخر، أما بقاء رقبة المثقف تحت سيف الابتزاز فهذا يعني أنه سيظل مجرد عجينة يشكلها من يبتزونه كيفما شاءوا، ولا أمل أن يساهم بأي مشروع نهضوي وهو بهذه الحالة.

3) التعامل مع حالة الاستقطاب:تعيش المنطقة العربية حالة استقطاب فريدة من نوعها، ربما ليست الأولى في حدتها وانعكاساتها، ولكن أدواتها شديدة التأثير، فنحن في العصر الرقمي الذي تستخدم فيه وسائل النقل والنشر السريعة جدا؛ وهنا على المثقف أن يتعامل مع الأمر بحكمة بالغة وألا تغلب عليه العصبية أيا كانت، هذا إذا كان راغبا فعلا بنهضة ثقافية، وهذا يشمل كل المثقفين من شتى الانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية والسياسية، فالمثقف المسلم والمسيحي والسني والشيعي والعربي والكردي والأمازيغي، الإسلامي والقومي والوطني وغير ذلك، يجب أن يعي الظرف التاريخي الصعب، وألا يصب الزيت على النار، وفي نفس الوقت ألا يقلل أو يهوّن من شأن الطوفان الجاري، وأن يدرك أن بمقدوره، إذا أراد وأخلص النية، أن يخفف من غلواء الاستقطاب السلبي، وفي سبيل ذلك، على المثقف أن يدرك أن الأدوات القديمة، والتفكير بعقلية الحرب الباردة وما بعدها ليس هو السبيل الصحيح، وأن يسلّم بأن الدولة العربية القُطرية قد فشلت تماما، أيا كانت وأن التيار أقوى منها، وأنه لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، ولكن البدائل المطروحة والتي تفرض نفسها بقوة السلاح والمال والاستقواء بالغرباء ليست هي البديل الذي يسعى إليه من يريد للأمة رفعة الشأن أو النجاة من الأخطار، ولا شك أنها معادلة صعبة أي التسليم بأن الدولة العربية القطرية توشك بخيرها القليل وشرها الكثير على الزوال، وقد كانت العامل المؤثر، والمكوّن للسلوكيات وتركيبة السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة العامة، وألا ينحاز لأي بديل قائم على العصبويات المهاجمة كالطوفان، والتي هي نتيجة مباشرة لفشل الدولة العربية للأسف، وأن يخرج المثقفون مما هم فيه من الاصطفافات بناء على هذه العصبويات...ولكن قدر المثقف المنتمي الطليعي تجاوز المعادلات الصعبة!

4) فلسطين خط أحمر:كان هناك زمان لا يتم استقبال فلسطيني قدّر الله أن يحمل جنسية إسرائيلية بعدما بقي في أرضه المحتلة سنة 1948، وانعكس هذا على مثقفين من هؤلاء، لا شك في انتمائهم ووطنيتهم، وحبهم لأمتهم وتعلقهم الوجداني بمحيطهم العربي، وللأسف فإن هذه المعاملة والموقف المرفوض، الذي يعتبر متطرفا-لو صح الوصف- انتقل إلى موقف متطرف في الاتجاه الآخر بالتطبيع مع الكيان العبري ومؤسساته تحت عناوين مختلفة تارة، وبانتـهاج بعض المثقفين مسلكا موغلا في وقاحته واستفزازه فيما يكتبون أو يتكلمون حينما يجرّمون الشعب الفلسطيني ومقاومته، أو يشككون في حقوقه المشروعة، وصولا إلى التشكيك بالمقدسات داخل فلسطين تارة أخرى، علما أنها مقدسات لا تخص الفلسطينيين وحدهم، ويكفي أن موقعا لوزارة الخارجية الإسرائيلية ينشر مقالات مجموعة من هؤلاء، الذين صاروا صهاينة بلسان عربي، وفي سبيل نهضة ثقافية عربية يجب محاصرة ونبذ ومحاربة هذه الفئة وعدم التهاون في الأمر، ولا يجوز التذرع بحجج وتبريرات رومانسية لقبول هؤلاء بوصفهم مثقفين عرب لهم وجهة نظر مختلفة، فهؤلاء انتقلوا إلى المعسكر المعادي.
هذه إجمالا مفاتيح أو عناوين أراها تصلح لاستنهاض الحالة الثقافية العربية، وإذا أخذ بها ولو عدد قليل من المثقفين فإن جهدهم سينال بركة الحركة بإذن الله...هذا وإلا علينا انتظار مزيد من الانهيارات الثقافية والتيه والضياع، وأن ننظر حولنا فنجد المشهد ينتقل من سواد إلى سواد أشد...والله ولي التوفيق.