الإثنين: 06/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

سميح شقير: وظيفة الغناء الملتزم تحريض المضَطَهَدين

نشر بتاريخ: 22/06/2016 ( آخر تحديث: 22/06/2016 الساعة: 12:08 )

الكاتب: بسام الكعبي

تأمل الفنان السوري سميح شقير بهدوء ايقاع الموسيقي في شوارع الحي اللاتيني في باريس، وشهد الاحتفاء المتكرر بعيد الموسيقى العالمي في العاصمة الفرنسية؛ الذي يصادف سنوياً في الحادي والعشرين من حزيران. أدرك شقير مبكراً سر غيابه عن المشاركة في كرنفال الشوارع؛ ذلك أن آلة العود التي يعزف عليها لا تمتلك ايقاعاً عالياً يرتفع في الأماكن العامة المفتوحة، ولا تصلح للمنافسة في عيد شعبي للموسيقى؛ تخطفه آلات النفخ والطبل والزمر.
تحتاج آلة العود الشرقية إلى قاعة هادئة بشروط تقنية محكمة ليرتفع صوت الأوتار، ومع ذلك لم يغب الفنان شقير أمس الثلاثاء عن الاحتفاء بعيد عالمي للموسيقى أطلقه وزير الثقافة الفرنسية جاك لانغ، بعد تقلد منصبه في حكومة الرئيس المنتخب فرانسوا ميتران عام 1981. كلفَ وزير الثقافة لانغ مستشاره لشؤون الموسيقى الملحن فلوريه بتنفيذ فكرة تحرير الموسيقى كرهينة مخطوفة بين الجدران الأكاديمية وقاعات العرض، وإطلاقها سيدة حرة تجوب الشارع والأماكن العامة. تلقفت مدن العالم الفكرة بعد أن أقيمت للمرة الأولى في باريس يوم الحادي والعشرين من حزيران1982، باستثناء العاصمة اللبنانية بيروت التي غيّبها العدوان الإسرائيلي عن المشاركة.

سر الدهشة الأولى

كيف إكتشف الفنان سميح شقير موهبته الموسيقية وصوته الغنائي؟ وكيف عثر على موسيقى حالمة تعبد طريق العدالة والمساواة أمام الفقراء واللاجئين الذين يحتفون بيومهم العالمي (20 حزيران) ملاصقاً لعيد الموسيقى في مفارقة عجيبة!؟ هل تمتلك الموسيقى سحر العزف المنفرد لتحريض أحد عشر مليون لاجئ ونازح سوري على التماسك، رغم الدمار، من أجل وطن ديمقراطي موحد؟! كيف يحرض الغناء الملتزم كل المضطَهَدين على النضال من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة في العدالة والمساواة؟

استعاد شقير من باريس في حوار ثنائي مسائي طويل عبر الهاتف؛ سر دهشته الأولى باكتشاف صوته مبكراً في "مسرح" بيتي صغير: كان يغطس ساعات مع شقيقه الأكبر غسان تحت تخت في منزل العائلة الواقع في أشرفية سحنايا في ضواحي العاصمة السورية دمشق، ويتلمس تأثير صوته متداخلاً مع إيقاع يصدر بضربات منتظمة من كفه على زنبركات التخت، فيتشبع بالدهشة ويطير بأحاسيس ألحقته سريعاً بالكشافة، ليلامس لأول مرة في حياته الآلات النحاسية، عقب مغادرته طفلاً قريته ( القريا) على بُعد 17 كيلومتر جنوب مدينة السويداء في جبل العرب، وكان قد شهد طقوس عرس شعبي بحضور مطرب وفرقة غنائية شامية، وتأثر بشدة بصوت الآلات الموسيقية المباشرة التي أضرمت فيه النار، وسلمته إلى شغف الموسيقى.
بصمة باشا الثورة

ولد سميح في (القريا) في السابع والعشرين من كانون أول1957 لأب ضابط وقاضٍ عسكري في الجيش السوري، وجدٍ يدعى سلوم شقير قائد ديني إلى جانب الزعيم السياسي وقائد ثورة 1925 سلطان باشا الأطرش إبن (القريا). ظل الفتى حريصاً على زيارة مضافة سلطان باشا الأطرش المجاورة لبيت عائلته وبحضور جده سلوم. استمع كثيراً لحكايات تناولت مراسم زيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر لبيت ضيافة الأطرش سنة 1960 في زمن الوحدة بين سورية ومصر، وشاهد أواخر الستينات لأول مرة في حياته طائرة هليوكبتر تهبط في ساحة مجاورة لمضافة الأطرش تقل أرفع مسؤول سوري كان في زيارة رسمية للباشا.

شهد شقير أواخر آذار 1982 أضخم جنازة عرفتها سورية عندما ودعت قائدها الفذ سلطان باشا الأطرش (1891-1982) القائد العام للثورة السورية الكبرى1925 بمواجهة الانتداب الفرنسي. انطلقت الثورة من جبل الدروز، بات يُعرف بجبل العرب، رفضاً للتقسيم الطائفي الذي فرضته فرنسا بتقسيم البلاد إلى أربع دويلات: دمشق، حلب، جبل العلويين، جبل الدروز، وأنضوى المقاتلون تحت شعار: الدين لله والوطن للجميع. الثورة السورية أجبرت الانتداب الفرنسي على التراجع عن التقسيم وفرضت عليه الاعتراف بوحدة سورية حتى عيد الجلاء في 17 نيسان 1946. رحل باشا الأطرش رافضاً تسلم أي منصب حكومي في الحقبات السورية المختلفة، وتركتْ شخصيته الفذة بصماتها على مسيرة الفتى اليافع.

أطلق في سن الرابعة عشرة أشعاره عندما عجز عن توفير آلة موسيقية بحكم قسوة الظرف المالي للأسرة، وخجله من المطالبة بتوفير آلة للعزف. أخذ يلحن أشعاره بطريقة الدندنة وبتشجيع شقيقه غسان وأصدقائه الذين أدركوا موهبته الموسيقية. واظب على استخدام الدندنة والطَرق على الخشب والحديد والأواني المختلفة، إلى أن تسلم أول عود هدية عيد ميلاده العشرين من عمه الدكتور فارس شقير، خريج فيزياء بشهادة عليا من جامعات ألمانيا، لحظة إدراكه موهبة إبن شقيقه في الغناء والموسيقى. عَثر في الأوتار على شغفه ولم يفارق عوده، وظل يعزف على أوتاره رباعيات الخيام باحساس ذاتي دون علم بأصول الموسيقى، وظل يتدرب ويتطور بقدرات ذاتية دون معهد متخصص. أدرك مبكراً قيم العدالة الانسانية، وإهتم بعالم الرواية السوفياتية، وانشغل بالأفكار العلمانية التقدمية وتأثيرها على نوعية الغناء والموسيقى؛ فانخرط في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي باعتباره ذراعاً للحزب الشيوعي السوري.
التحق بعد الثانوية العامة سنة 1977بالخدمة العسكرية حتى سنة1980، ليتفرغ إلى الموسيقى والبحث عن صوت غنائي ينسجم من لون الموسيقى التي تشغله، ونوع الغناء الذي يعبر عن حاجات الناس في الحرية والعدالة، لكن بتشجيع الأصدقاء عثر على صوته منسجماً مع موسيقاه، وانطلق بحفلات غنائية تجريبية في أوساط الطلبة والفلاحين والعمال.

إنطلاقة جزائرية

تعرف شقير على الناشط الجزائري الزاوي أمين، طالب الدراسات العليا في جامعة دمشق، وعرض عليه المشاركة في مهرجان عالمي للأغنية الملتزمة في الجزائر أقيم على مسارحها سنة 1982. لَمَع صوت سميح في المهرجان، ونال اعجاب الحضور، وخَطَفَ تغطية الصحافة العربية والفرنسية، وقد أطلقته الجزائر إلى العالم صوتاً للدفاع عن المظلومين والمضَطهَدين. عاد إلى الشام ووجد اهتماماً كبيراً بأغنياته الملتزمة، وبدأ بالانتشار السريع في شارع متعطش لهذا النوع الملتزم من الغناء للناس والوطن بعيداً عن أغنيات تمجد سلطة الحاكم، فأصدر شريطه الأول (لمن أغني) سنة 1983، وفي العام التالي أصدر مجموعته الغنائية الثانية (بيدي قيثارة) متضمناً أغاني: يا الجولان ما تهون علينا. هي يا سجاني. عتمة سجاني. حصار بيروت. شارك في هذه الفترة بفعاليات موسيقية في لندن مناهضة للعنصرية، قبل أن يصدر المجموعة الغنائية الثالثة (حناجركم) سنة 1985. أصدر مجموعته الغنائية الرابعة (وقع خطانا) سنة 1987 قبل جولة حصدت إحدى عشرة مدينة في ألمانيا الغربية. شارك سنة 1989 في مهرجان قرطاج الدولي، وأحيا حفلات في سبع مدن تونسية قبل أن يصدر مجموعته الغنائية الخامسة (زهر الرمان) سنة 1990.

قدم شقير صيف 1988 عرضاً في مهرجان بُصرى (محافظة درعا) على مسرح روماني شهير جنوب دمشق، يمتاز بالسعة واكتمال المبنى. هبّ هواء المساء، وتطايرت أوراق النوتة. تقدم نحو مجموعة صبايا من جمهور كبير، وطلب بعض دبابيس الشَعَر لتثبيت الأوراق المتطايرة من أمام العازفين. في لحظات قصيرة تسلم كميات ليست قليلة من الدبابيس، وشَعر بالسعادة عندما خاطب الصبايا أن يحتفظن بما تبقى لديهن من دبابيس شَعَر.

طوال ثماني سنوات واصل الغناء في المناسبات الشعبية للطلاب والعمال والفلاحين بعيداً عن توجهات النظام الحاكم، فأرسل مدير عام الإذاعة رئيس قسم الموسيقى لاقناعه بتسجيل بعض أغنياته وبثها. رفض شروط هيئة الإذاعة الحكومية، واعتبر الأمر محاولة للاحتواء وبخاصة أنه شهد تجربة سابقة لمغني حرقته السلطة، وأوصلته إلى حائط مسدود. سجل في قسم القانون في جامعة بيروت، ثم نقل دراسته إلى جامعة دمشق، لكنه رسب في امتحانات السنة الثالثة، وقرر مغادرة الدراسة، والانسحاب أيضاً من معهد متوسط للموسيقى تابع لجامعة دمشق، وغادر سنة 1990 إلى أوكرانيا.

دَرسَ الموسيقى طوال أربع سنوات في جامعة كييف ونال شهادة في التخصص، وعاد إلى دمشق. قيّدت السلطات سفره إلى الخارج للمشاركة في المهرجانات العربية والدولية، ومنعته من الالتحاق في هيئة الإذاعة والتلفزيون، فأضطر إلى إقامة استديو صغير لتسجيل الأغاني من أجل توفير الحد الأدنى لمعيشته، وأجبر أيضاً على البحث عن وساطة ملتوية لتزوير موافقة سفر غير قانونية؛ عندما يضطر لمغادرة الشام والمشاركة في المهرجانات والجولات الغنائية: شارك عام 1998 في مهرجان فيللا موزيكا الالمانية وقدم عروضاً في ثلاث مدن. عاد للمشاركة في مهرجان الحرية في مدينة كولون الألمانية عام2000. قدم أمسيات غنائية في ولايتي تكساس ولويزيانا الاميركيتين عام 2001. مهرجان جرش الأردني 2002 وعرض في فنزويلا وبيروت وعمان وهولندا واسبانيا والرباط، وطاف معظم دول العالم، لكنه كان يعود بعد انتهاء الجولات إلى دمشق، رغم حصار النظام وسطوته الأمنية في التعامل مع فنه؛ سواء داخل القطر السوري أم خارجه.

مغادرة قسرية

لم يعد قادراً على تحمل حصاره وقسوة ظرفه، فكتب مقالة نقدية حادة نشرها الملحق الثقافي في صحيفة تشرين سنة2010، وهاجم بقوة عداء النظام للمثقفين الذين لا يدينون له بالولاء. توقع الاعتقال، لكن أجهزة النظام تجاهلت موقفه، وجمعت أعداد الجريدة، وأجرت حساباً في داخل الصحيفة لاعادة ضبط ايقاعها.

غادر دمشق أواخر صيف 2010 إلى بولونيا التي تحمل زوجته جنسيتها رغم أنها من أصول أوكرانية، وكان التقى زوجته أثناء دراسته في أوكرانيا، وارتبطا سنة 1994 في دمشق، وأنجبا نتالي (21 سنة) و آنا (18 سنة) صبيتان تمتلكان أصواتاً جميلة، وموهبة في عزف البيانو والجيتار. لم يصمد سوى عدة أسابيع في بولونيا، وقرر المغادرة إلى العاصمة الفرنسية باريس للاقامة فيها، وكان باستقباله في المطار صديقه الفلسطيني الفنان أحمد داري.
مع انفجار الأزمة السورية أواسط آذار2011 أطلق أغنيته الشهيرة (يا حيف) احتجاجاً على قيام الأجهزة الأمنية بقتل المدنيين المسالمين في درعا جنوب سورية، وانتشرت الأغنية كالبرق بين الناس.

منذ بداية مسيرته الفنية المتواصلة أصدر مجموعة من الأعمال الغنائية: لمن أغني، بيدي قيثارة، حناجركم، وقع خطانا، زهر الرمان، زماني، يا باح (خاص بالأطفال)، جنين شلالات الدم، على الأيام، قيثارتان، مطر خفيف.

يقيم مع أسرته في باريس، ويحرص على المشاركة في كل المهرجانات الغنائية؛ دفاعاً عن المضَطَهدين وتحريضاً على الثورة والتمرد لانتزاع العدالة، وقهر الاستبداد، وإقامة مجتمع ديمقراطي حر يكفل المساواة لكل إنسان دون تمييز.