الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

كيف وأين نقرأ تاريخنا ؟

نشر بتاريخ: 10/07/2016 ( آخر تحديث: 10/07/2016 الساعة: 15:08 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

نطالع تاريخ بلادنا وأسلافنا لأكثر من غاية. فمنا من يقرأه للاستمتاع به لا غير. وآخرون يدرسونه للاستفادة منه سواء في حججهم مع الآخرين, أو لاستنباط ما يعتبرونه عبرا لهم ولغيرهم, أو محاولة لفهم الحاضر والتنبأ بما يخفيه المستقبل, وغير ذلك من الأسباب.

نقرأ كتب التاريخ على اعتبار أن ما كتبه الراوي كان جديرا بالتدوين وأن ما أهمله لم يكن كذلك. وحيث أن أهل الماضي كانوا معاصرين للأحداث, أو أقرب زمنيا لها, فليس لنا سوى الاعتماد على صحة ودقة روايتهم, إلا إذا كان ذلك منافيا لما يمليه العقل. فحينئذ علينا التحري من كتابات ومصادر أخرى, إن وجدت. لذا على دارس التاريخ أن يقرأه بعناية وتمعن, تماما مثلما عليه فعله فيما يروى اليوم من أخبار على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام. فكل منا يروي الأحداث من زاويته, وحسبما يراها ويفهمها, على الرغم من أن قلة من البعض يرووهها حسبما يبتغوها. فهذا الفن ليس بعلم مثل الرياضيات والفيزياء, وشأنه في ذلك شأن دراسة الآداب والاجتماعيات والاقتصاد. ففي رواية عن وينستون تشرشل أنه وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية سارع الى كتابة تاريخها. ولدى سؤاله عن سبب تسرعه علل بأن ما كتبه سيكون هو التاريخ للحرب, وعلى من يخالفه الرأي أو التحليل عبء تغييره وتقديم براهينه. فهل الانطباعات الأولية أحيانا أكثر تأثيرا من ما نعتبره حقيقة للأحداث ؟

تاريخنا في هذه الديار يقرب من خمسة عشر قرنا من الزمان. ولتيسير فهمنا للحوادث نقوم عادة بتقسيمه الى عهود الحكم في بلادنا. إذ امتدت حقبة الخلفاء الراشدون في بلادنا نحو 30 سنة, تم خلالها فتح بيت المقدس, والأمويون داموا 90 سنة, والعباسيون الأوائل نحو 120 سنة, والإخشيديون نحو 35 سنة, والفاطميون نحو 200 سنة, والصليبييون ومقرهم القدس, داموا بتواصل في المدينة نحو 90 سنة, والأيوبيون 75 سنة, والمماليك 265 سنة, والعثمانيون ومقرهم القسطنطينية حكموا البلاد لنحو 400 سنة. وعليه ندر أن حكم هذه الديار أهلها, بل كانوا دوما جزءا من دول عظمى شملت مصر وبلاد الشام والعراق.

لم يكن طول فترة الحكم لأي من العهود المذكورة هو العامل الوحيد في التأثير على بلادنا. فإذا أخذنا الناحية العمرانية للقدس مثلا نجد أن العهدين الأموي والمملوكي كانا أكثر تأثيرا من غيرهم. فالعمران يحتاج الى العزيمة والمال. فهذا الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ولدوافع دينية وسياسية شيد كل من المسجد الأقصى والصخرة المشرفة (خلال السنوات 66 – 73 للهجرة), ورصد خراج مصر لسبع سنين للصرف على ذلك. أما المماليك فقد أنشأوا في المدينة أكثر من أربعون مدرسة وزاوية بفن معماري مميز, ما زال غالبيتها قائما الى اليوم, وأوقفوا العشرات من القرى والأماكن عليها. وعليه كان للعهدين المذكورين آثارا عمرانية أكثر من غيرهم, على الرغم من أن مجموع فترتي حكمهم قلت زمنيا عن طول العهد العثماني.

كانت فلسطين من الناحية العسكرية ممرا حيويا للجيوش فيما بين بلاد الشام ومصر, وساحة مفتوحة للمعارك الكبرى التي وقعت في المنطقة حتى منتصف القرن السابع الهجري. إذ انهزم البيزنطيون من بلاد الشام نتيجة معركتي اليرموك وأجنادين, وبدأ دحر الصليبيون من المشرق إثر معركة حطين (1187 م) غربي طبرية. أما المغول فقد وصلت طلائع كشافتهم الى سهل اللبن وذلك بعد احتلالهم لدمشق. وطالعنا كيف أن شيخا مسنا من قرية الساوية خرج وحيدا لمقاتلتهم بسلاحه الأمر الذي أدى الى استشهاده. وأوقف زحف المغول باتجاه مصر بعد هزيمتهم من قبل المماليك في عين جالوت (1260 م) قرب مرج بني عامر. وفيما بعد ذلك شهدت القدس والبلاد هدوءا نسبيا طوال خمسة قرون من الزمن انتهت لدى هجوم نابليون على عكا, ثم غزو ابراهيم باشا بن محمد علي للبلاد في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي, ثم غزو بريطانيا لها عام 1917 م, وما تلى ذلك من أحداث. وتعد الفترة ما بين معركة قرون حطين ومعركة عين جالوت من أخطر ما مر على هذه الديار وأهلها. فخلالها تم تسليم القدس للصليبيين في آذار, عام 1229 م, بعد هدم أسوارها من قبل المسلمين وذلك نتيجة الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع, والذي أسر في معركة المنصورة بمصر (1250 م). كما نهبت المدينة في 1244 م من قبل القبائل الخوارزمية التي كانت هاربة من جحافل المغول الزاحفة. ومن حسن طالع أسلافنا أن قادهم آنذاك عسكريون عظام ذو عقيدة متينة مثل صلاح الدين وقطز وبيبرس وقلاوون وابنه الخليل الذي حرر عكا, آخر معقل للصليبين في هذه الديار (1291 م).

لم ينقطع تواجد أهل القرى في بلادنا قبل وبعد الحروب الصليبية. أما أهل المدن الأصليين فقد انقطع تواجدهم خلال الحكم الصليبي ليعود تكوينه من جديد بعد معركة عين جالوت. وساد البلاد الهدوء النسبي منذ ذلك الحين, وخلت من مخاطر الغزو والنهب من قبل الجيوش العابرة. فحتى الثورات الداخلية والتي ندر حدوثها لم تعكر صفو أمن هذه الديار. وعلى الرغم من أن بيت المقدس لم يكن محطة تجارية هامة كدمشق أو حلب أو الإسكندرية, إلا أنه جذب اليه مشاهير العلماء من كافة البلدان ليدرسوا في مدارسها. كما أنه كان يقصد على الدوام من قبل الحجاج المسلمين للزيارة. وكذلك قصده الحجاج الأجانب من النصارى واليهود على الرغم من فرض الحكام عليهم رسوم دخول اليه كانت تعرف "بالأغفار", والتي كان يعفى منها أهل الذمة المحليين ورهبانهم, والغيت في عام 1803 م.

كان للمؤرخين العرب باع طويل في كتابة التاريخ. ونعني بهؤلاء من كتب التاريخ بالعربية حتى لو كانت أصوله من غير العرب. نضج نهج هؤلاء وأسلوبهم وتنوعت كتابتهم مع نضوج الحضارة الإسلامية العربية. وحسبما يظهر أدناه, بلغ مستوى مرموق في الجودة والدقة والغزارة في العصر المملوكي, وفاقت مؤلفاتهم ما ألفته الأمم الأخرى في ذلك العهد. ولكن ما أن دخل العهد العثماني حتى انقلبت الصورة رأسا على عقب. فقل كثيرا ما دون من كتب التاريخ, بل ندر. كما أن ما كتب كان على وجه العموم أقل جودة وفائدة. وليس من العدل أن نعزوا ذلك الى تمسك العثمانيون بلغتهم . فالعرب عاشوا غالبية عصورهم تحت الحكم الإسلامي الغير عربي مثل العصور البويهية الفارسية والسلجوقية والأتابكية التركمانية والأيوبية الكردية والمماليك والبربر وغيرهم. وهذه الظاهرة جديرة بالبحث ويطول فيها الكلام. بيد أنه يجب أن نذكر أن العهد العثماني قد خلف لنا عشرات الألوف من الصفحات لما دون في حينه في سجلات المحاكم الشرعية وأيضا الوثائق الأصلية. فأين باحثونا اليوم ودراستهم لها ؟

انتهج المؤرخون العرب منهجين رئيسيين في كتابة التاريخ. الأول وهو الأقدم كان تدوين التراجم لذوي الاختصاص كأهل الحديث الشريف (مثل الطبقات الكبير للواقدي, المتوفى في 823 م) وأهل الفقه (مثل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى, 1131 م), والأدباء (مثل معجم الأدباء لياقوت الحموي, 1229 م) وعلماء اللغة (مثل بغية الوعاة للجلال السيوطي, 1505 م) والأطباء (مثل طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة, 1270 م), الخ. وفي أواخر عهد المماليك بدأ المؤرخون في تدوين هذه التراجم وفق القرون. فهذا ابن حجر العسقلاني (1449 م) كتب "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة", وكتب السخاوي (1497 م) "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع", ولحقه الغزي (1651 م) في كتابه "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة", ثم المحبي (1699 م) في كتابه "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر", والمرادي (1791 م) في كتابه "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر". بقي أن نذكر كتاب جليل ومن أفضل ما كتب حديثا في التراجم والتأليف والذي لا يجب أن تخلو مكتبة منه, هو "الأعلام" لخير الدين الزركلي (المتوفى في 1976 م), والذي عاش فترة في القدس ويافا.

أما النهج الثاني لكتابة التاريخ فكان تدوين الوقائع وفق السنة التي وقعت بها الحوادث. ومن أوائل من فعل ذلك الطبري (المتوفى في 923 م) في كتابه "تاريخ الأمم والملوك", وتبعه آخرون مثل ابن الجوزي (1201 م) في "المنتظم", وابن الأثير (1232 م), والذي زار القدس, في كتابه "الكامل", يليه ابن خلدون (1406 م) في كتابه "المبتدأ والخبر", ثم المقريزي (1442 م) في كتابه "السلوك", يليه ابن تغري بردي (1470 م) في كتابه "النجوم الزاهرة", ثم ابن إياس الحنفي (1524 م) في "بدائع الزهور", وابن العماد الحنبلي (1678 م) وكتابه "شذرات الذهب". لم تختص أي من هذه الكتب بذكر تفاصيل الأحداث في بلادنا, وإنما ما تم ذكره كان عابرا. ويستدل منها مثلا زيارات السلاطين للقدس, وكيف أنهم في الفترة المملوكية كانوا يعينون أبناء جلدتهم لحكمها. وكانت السلاطين المملوكية تتخذ بيت المقدس منفى لمن يخالفهم من الأمراء ومن لا يودون قتلهم. كما تم ذكر ما أنشأوه من مدارس فيها, وما عمروه, مثلما فعل السلطان برقوق (المتوفى في 1399 م) في بناء بركة السلطان (خارج باب الخليل) وإعادة تعمير قناة العروب التي جلبت المياه للمدينة من برك سليمان قرب بيت لحم.

وصف بعض الجغرافيين مثل المقدسي (1000 م) وابن حوقل (978 م) بيت المقدس وأكنافه. فمثلا ذكر الأخير أريحا وكيف أنها كانت "كثيرة العبيد والعقارب". بيد أن وصفهم كان مقتضبا ولا يرقى لما كتبه المقريزي في تفصيله الدقيق للقاهرة في كتابه "الخطط والآثار". أما ابن القدس وقاضيها مجير الدين الحنبلي العليمي (1522 م) فقد أسهب أكثر من غيره في سرد تاريخ المدينة وعلمائها وأهلها ومدارسها وحاراتها وذلك في كتابه "الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل". ومما لا شك فيه أن هذا المؤرخ قد اطلع على العديد من الوثائق وسجلات محكمة القدس آنذاك والتي لم يعد غالبيتها متوفرة لنا اليوم. كما أنه كتب وبإسهاب ما عاصره من أحداث في أيامه مثل هدم كنيس اليهود وإعادة بنائه في أحداث عام 1474 م, وأيضا زيارة السلطان قايتباي للمدينة. ويبقى كتابه المذكور من أفضل المراجع لمن ينشد قرائة تاريخ بيت المقدس وأكنافه, وذلك لحين ما يمكن أن يعطف علينا مستقبلا مؤرخينا من كتب حديثة, مفيدة, وشافية.