الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
فيروز ظاهرة فنية واجتماعية وسياسية، كما هي بالضبط أم كلثوم، وحسب "نظريتي" رغم أنني لا أُسمي نفسي مفكراً كما يحلو لبعض الأخوة أن يفعلوا، فإن انطلاق هاتين الظاهرتين ترافق مع ظهور وتبلور الشخصية الوطنية اللبنانية والمصرية، الأولى من ربقة الاستعمار الفرنسي والثانية من الإنجليز والملكية، تقوم "نظريتي" على ثنائية القوة والضعف، فسنوات القوة تحتاج إلى رموزها وأدواتها وسلوكها ولغتها، وسنوات الضعف كذلك، ولذلك، فإن القوة تتمظهر في كل شيء، البناء والغناء والفن والشعر والسياسة والفكر، وسيقول قائل أن مجريات التاريخ قد لا تدعم هذه النظرية في بعض الأحيان، وجوابي هو أن القوة ليست بالضرورة أن تكون مادية، بل معنوية وروحية ووجدانية، وهكذا نفسر ظهور طاغور مثلاً أو الإنتاج الفني والأدبي والفكري في القرن الرابع الهجري في تاريخ الإسلام، أو حتى محمود درويش الذي عبّر عن هوية قوية مجروحة تبحث عن جغرافيتها، ولم أكن أريد أن أشرح "نظريتي" الآن، ما أردت أن أحتفل به في مقالتي هذه هو عيد ميلاد فيروز الثمانين، لأقول أن هذه السيدة استطاعت بصوتها الحريري والشامل والدافئ والدافق والموحي والعسلي والمائي، صوتها المعجون من رمل الشواطئ وغموض الغابات، ومن شمس الظهيرة وشحوب المساء، أن تغير خريطة الغناء العربي ومزاجه وأجواءه وأولوياته وتفضيلاته، أنزلت الغناء من آهاته وعذاباته إلى أن يكون جزءً من حياتنا العادية، غنّت للناس البسطاء والفقراء والمعذبين، وغنّت للعشاق والسحر والأسطورة والأبواب المغلقة، غنّت للضياع والانكسار والغربة والفرقة، غنّت للهفة والحرقة على الأحباب الذين غابوا ولم يعودوا، غنّت لِحنّا السكران الذي ما يزال يسكر ويتذكر على حائط الذين أحبهم وغابوا، وغنّت للطاحونة التي كانت تجمع أهل الحي الذي تفرقوا، وغنّت للشوارع الغادرة والمرايا الناكرة، غنّت للكنز والقنديل، غنّت للعوانس والعصافير والحب والبيوت، حوّلت فيروز أغنيتها إلى أن تكون أغنية النهار، أغنية العمل، أغنية الحصّادين والعمال، فيروز ومن ورائها عباقرة الكلام واللحن، الرحابنة جميعاً، بما فيهم زياد الذي دفع بها إلى مساحات أخرى في اللحن والكلام، قدموا فناً ثورياً من نوع جديد، ثورة وجدان، ثورة فهم جديد، ثورة بلا أيديولوجيا، ثورة روحية، أشبه بثورة جبران على فرق شاسع في المرجعية واللغة، فيروز ورحابنتها، قدموا لبنان الجديد، الناهض من تحت الاستعمار، الباحث عن هوية أخرى، مرتبكة ومضطربة، وبشكل أو بآخر، كانت فيروز هي هوية من نوع آخر للبنان.