الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

ثوراتٌ متأنقةٌ بربطات عنُق

نشر بتاريخ: 05/09/2017 ( آخر تحديث: 05/09/2017 الساعة: 09:40 )

الكاتب: د.نادر صالحة

السياسيّون والتجارُ يتقنون ربطها بمهَارة، في طَرفة عينٍ وعن ظَهر قلب. الثوّارُ لا يرتاحُون لها إِطلاقاً، لتلوّنِها ربما، ولرمزية التعلُّق والتعليق والإنقياد، ربما أخرى.
من المفارقةِ، أن أُصول ربطة العنق ثوريةٌ بامتياز، تعود إلى حرب الثلاثين عاماً بين شمال ووسط أوروبا قبل 400 عام. كان شالاً تلفُّهُ الأمهات والزوجات الكرواتيّات حول أعناق أحبائهن المتوجهين إلى ساحات القتال، لتحميَ رقابهم من برد الشمال الأوروبي. فإذا وقعوا في الأسر، فبذات الشال يُشنَقون. وعندما يَنزع الموتُ ملامحَ وجوهِهم، يَستَدِلُّ الحبيبُ على حبيبهِ بنقش شالِه.
كان بَعداً، أن أُعجِب الملك لويس الرابع عشر وكان صبيّاً وقتها، بربطات أَعناق الكرواتيين عندما حضروا إلى قصره مفاوِضين، فلبسَها، وأَلبسَها حاشيتهُ وخاصَته. سمّاها الفرنسيون “كاراڤات cravate” وتعني الكرواتي، فجعلوها رمزاً للنبل وعُلوّ الشأن، واقتصرت حينها على الرجال دون النساء. أَعجَبَ الأمرُ البريطانيين لذات السبب، فهُم أجدر بالنُّبل والرِفعة. فسموها “ربطة العنق necktie”، واستأثر بها الملك جورج الأول وعِليةُ قومه من الرجال دون النساء كما فعل الفرنسيون قَبْلاً. تَرافَقَ عُلوّ شأن ربطة العنق مع إندفاع التوسّع الأوروبي الإمبريالي، بقهرٍ واسعِ النطاق لعموم الشرق وجنوب الكوكب. أمّا نحنُ، فمثلُهُم، وأَكثرُ قليلاً! أَغوانا ما أَغوى لويس وجورج، شريطة أن تكون "براند" فرنسية أو إيطالية، وهي الأفضل. وزهدنا بباقي العوامل النهضويّة الأوروبية، فأَخذناها عنهم، فكَفَتْ. حتى أن “جهاديين” مُعمّمُين مثل أبو محمد الجَولاني وأبو بكرٍ البغدادي والظواهري قد يَظهروا متأنقين بها في أي مباغتةً صُحفية.
كان لابد للأميركيين من تدخلٍ ثوري في هذا السياق، فالكُروات مَحضُ مرتزقةٍ بحسْبِ الأدبيات الأميركية، وهذا لا يليق. فابتدعوا "البابيون bow tie” أو ربطة الفراشة، منتصف القرن 19، بعد أن أجهَزوا على 8 ملايين إنسان من سكان القارة الأميركية الأصليين. وعلى مدى مئة عام تلت، أُبتُكرت إحدى عشر طريقة لربط الكرافات: الربطة الشرقية، الحسابية، نابليون، الأميركية، ساعي البريد، الإيرلندية، الحصان، غورديان، البرميل، الصيد. وآخرها وأهمها الأميركية “ربطة برات”، وهي السائدة والمتبعة اليوم.
وما يدحضُ المزاعِم التي أوردُتُها عن أَصل ربطة العنُق؛ الإكتشاف الذي أذهل العالم في العام 1974، عندما كُشِف عن ضريح إمبراطور الصين الأول، كين شين هوانج. صَحِبه في مدفنه 8 الآف جندي من صَلصَالٍ لا يُشبه أيٌّ منهم الآخر، قبل نحو 3 الآف عام. ثمثال الإمبراطور هوانج كان متأنقاً بربطة عنق! حاول البعض تأصيلها إلى الطوق الفرعوني، غيرَ أنه بعيدٌ عن فكرة الشال.
سيميائياً، علاقة الدالّ والمدلول والرمزية لربطات العنق تعرضت لانزياحات دلاليّة كبيرة؛ ثقافية، نفسية، سياسية، وإجتماعية. غيرَ أن انزياحاتِها غيرُ اعتباطيةٍ بالمطلق. قرأتُ عن “علم نفس ربطات العنق”، وتأثير ألوانها على الشعور بالقوة والاعتداد في بعض المصادر. كان ذلك أقربُ الى الإقحام والارتجال والتلبيس منه الى عِلمٍ يُعتدّ به.
فيما سبق من استحضار، أُحاول العثور على رابطٍ إن وُجِد، بين الانزياحاتِ الدلاليّةِ للنصّ المشنوقِ أَعلاه، وبين ربطة العنُق القاتلة لبدلة العيد غير المتوفرة للطفل اليمني المنتحِر عمار محمد. وبينه، وبين ربطات العنق الثوريّة في أعناق ثُوار المشرِق المتأنّقين، والفشلِ المُريع والمرّ الذي طوَّق ويُطوّقُ أَعناق ثوراتنا المزركشة. وأيضاً، بين قيادات الصفّ الأَول للثورة الفلسطينية، الذين لم يرتاحوا لربط أعناقهم قَط، فتركوها عَنقاءَ باسِقة، كما يقول الأرشيفُ المصوّر لعرفات ولأبي جهاد وصلاح خلف وآخرين كُثر. إرتداها عرفات مُكرهاً مرةً واحدةً فقط، في طريق هروبه إلى طرابُلس.. مُتخفيّاً. فيما راقَت للبعض في ذلك الوقت، وللمعظم بَعداً. فَهل ثمةَ علاقة!