الأحد: 05/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأممُ المتّحدة بين غصنِ الزّيتون الأخضر وبندقيّة الاستيطان!

نشر بتاريخ: 27/09/2017 ( آخر تحديث: 27/09/2017 الساعة: 12:20 )

الكاتب: د.هيثم إبراهيم عريقات

ألقى السيّد الرئيس محمود عباس "أبو مازن" خطابًا تاريخيًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتبره الكثير من المحللين السياسيين واحدًا من أقوى خطاباته، فوُصف بالعميق والناري؛ لما احتواه من رسائل واضحة تحمّل العالم مسؤولية استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية منذ العام 1967، وقد أعاد للأذهان الخطاب الذي ألقاه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على ذاتِ منصة الأمم المتحدة في العام 1974 كممثل عن الشعب الفلسطيني يعرض مطالب وآمال وأحلام شعبه، وانتهى خطابه التاريخي آنذاك، بعاصفةٍ من التصفيق، بعد أن وضع العالم حينها بين خيارين: السّلم أو القتال، بقوله الخالد: لا تسقطوا الغصن الأخضرٙ من يدي".
واليوم بدأ سيادته خطابه بالحديث عن اتفاقية أوسلو بقوله: " أربع وعشرون سنة مضت على توقيع أوسلو التي حددت انهاء الاحتلال بعد خمس سنوات ومنح الفلسطينيين الأمل في إقامة الدولة الفلسطينية وتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فاين نحن اليوم من هذا الامل ؟؟ "، وأكمل خطابه قائلًا: " لقد اعترفنا بدولة إسرائيل على حدود العام 1967، لكنّ استمرار رفض الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بهذه الحدود يجعل من الاعتراف المتبادل بيننا وبينهم الذي وقعناه في أوسلو عام 1993 موضع تساؤل".
هذه التساؤلات الجريئة والعميقة جاءت لتحمل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي المسؤولية تجاه الشعب الفلسطيني بإنهاء الاحتلال وقيام دولته على حدود عام 1967 على أساس مبدأ الدولتين، كما أنها تشير إلى أن اتفاقية أوسلو، وأي اتفاقية سلام " لا قيمة لها" ما لم يكن الهدف هو إنهاء الاحتلال المستمر منذ خمسين عامًا للأراضي الفلسطينية في إطار "جدولٍ زمنيّ صارم"، وأضاف أمام المنظمة الدولية: " أما آن لهذا الاحتلال الاستيطاني أن ينتهي الآن"، فهي تساؤلات عتاب وانزعاج، موجهة للضّمير العالمي الذي يتعامل بازدواجيّة تجاه هذا الاحتلال، ويكل بأكثرٙ من مكيال، عتابٌ شديد اللهجة أطلقه عندما قال : " إنّ استمرار هذا الاحتلال يعتبر وصمة عار في جبين دولة إسرائيل أولًا، وفي جبين المجتمع الدولي ثانيًا، ويقع على عاتق هذه المنظمة الدولية مسؤولية قانونية، وسياسية، وأخلاقية، وإنسانية، لإنهاء هذا الاحتلال".
كما بين سيادة الرئيس بأنّ هناكٙ خيارات لم نعتاد سماعها منذ أعوام، وأن هناك استراتيجيّة وطنية فلسطينية شاملة، سيتم اتخاذها وتطبيقها؛ لإعادة تقييم اتفاقيّة أوسلو وملحقاتها، فلم يعد بالإمكان الاستمرار كسلطة دون سلطة، وأن يستمر الاحتلال دون كلفة، وأكد على ذلك بقوله: "نحن نقترب من هذه اللحظة، إذا لم يريدوا حل الدولتين وسلامًا، فليعودوا ليستلموا مسؤولياتهم وتبعات هذه المسؤوليات"، فهذه إشارة واضحة للمجتمع الدولي أنّ السلطة الفلسطينية لن تبقى تحمل غصن الزيتون وهي تحت الاحتلال، فقد تلجأ لخياراتٍ أخرى لكن لن يكون خيارُها أبدًا العنفٙ، ولا الإرهاب، عندما قال سيادته: " أين نذهب إذن! لن نذهب للإرهاب والعنف"، ويكون بذلك قد ألزم المجتمع الدولي تحمل تبعيات هذا الاحتلال، الذي لا محال سيزول عندما قال : " إن الحرية قادمة لا محالة، وإن الاحتلال إلى زوال، فإما الاستقلال لدولة فلسطين لتعيش بأمن وسلام إلى جانب دولة إسرائيل على حدود العام 1967، وإما الحقوق الكاملة التي تضمن المساواة للجميع على أرض فلسطين التاريخية من النّهر إلى البحر"، بين أن تدمير خيار الدولتين، وتعميق وترسيخ مبدأ الدولة الواحدة بنظامين (أبارتايد) من خلال فرض الأمرِ الواقع الإحتلالي، هو ما يرفضه الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي، وهو ما تسير ربما إليه إسرائيل، لكن سيكون مصيره الفشل، فلن يكون الخيار إلا النّضال، والمطالبة بحقوق كاملة لجميع سكان فلسطين التاريخية، وأعتقد أنّ ذلك لا يعدّ تهديداً، بمقدار ما هو تحذير وتنبيهٌ للأطراف الدّوليّة من النتائج المترتبة على استمرار الحكومة الإسرائيلية في تقويض مبدأ حلّ الدولتين.
أما الرسالة الثانية التي وجهها سيادته للمجتمع الدولي فكانت حول مدينة القدس الشرقيّة، والتي أشار فيها إلى أنّ ممارسات الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى فرض الحقائق الاحتلالية في المدينة، وأن هذه الممارسات تؤجج مشاعر العداء الديني الذي يمكن أن يتحول إلى صراع ديني عنيف، وأن على إسرائيل احترام الوضع التاريخي والقانوني للمقدسات في المدينة، فالحكومة الإسرائيلية، ومنذ أن احتلت القدس عام 1967 قامت بضمّها بقرار من طرف واحد.
وشدد سيادته: " أنّ القدس محتلة، وأنّها عاصمة دولة فلسطين، وإن ما تقومُ به إسرائيل من تغيير للوضع القائم التاريخي في القدس، والمس بمكانة المسجد الأقصى على وجه الخصوص، هو لعب بالنار، واعتداء على مسؤولياتنا ومسؤوليات الأردن الشقيق.
وأما الرسالة الثالثة فهي أنّ مشكلة الشعب الفلسطيني هي مع الاحتلال الإستعماري الإسرائيلي وليس مع اليهودية كدين، فاليهودية بالنّسبة للفلسطينيين مسيحيين ومسلمين، لم تكن ولن تكون خطرًا علينا، ودعا الدول كافة إلى إنهاء كل أشكال التعامل المباشر وغير المباشر مع منظومة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي غير القانونية في أرض دولة فلسطين، واتخاذ جميع الإجراءات لوقف هذا التعامل وفق ما نصت عليه قرارات الشرعية الدولية ومواقف هذه الدول، أسوة بما فعله المجتمع الدولي بالنظام العنصري في جنوب افريقيا سابقًا، فنلاحظ أن الرئيس أبو مازن قد وصف الاحتلال بأنه " الاستيطان الاستعماري" ، وهو الذي يعرف بأنه أخطر وأقسى ألوان الاستعمار حيث يستولي على الأرض من أهلها، ثم لا يكتفي باستغلال السكان، وإنما يقتلعهم من أرضهم وديارهم بالإبادة أو التهجير، فهو يحول البلاد التي يستعمرها إلى “أرض بلا شعب”؛ ليجعلها أرضًا خالصة له من دون أهلها، وهذا ما حذر منه سيادته، وأكّد عليه في خطابه.
وفي الرسالة الرابعة التي أراد أن يوجهها للأمم المتحدة والمجتمع الدولي أننا شعب يستحق الحياة، وبناء الدولة، فلقد استطعنا بالرغم من استمرار الاحتلال، ورغم ما نتعرض له من قيود بناء مؤسسات دولتنا التي اعترفت بها أغلبية الدول الأعضاء في هذه المنظمة، 138 دولة، كما أشار إلى أنّ السلطة الفلسطينية تتحمل كافة المسؤوليات تجاه شعبنا في قطاع غزة رغم الانقسام الذي وقع في عام 2007، وأشار إلى أشكال الدعم الذي يقدم إلى كافة أهلنا في القطاع الذين يعانون من حصار إسرائيلي ظالم، وقد أكد بأن لا أحد أحرص من سيادته على شعبنا في القطاع، كما أكد أن لا دولة فلسطينية في غزة، ولا دولة فلسطينية دون قطاع غزة، وعبر عن ارتياحه للاتفاق الذي تم التّوصل إليه في القاهرة بجهود مصرية مشكورة لإلغاء ما قامت به حركة حماس من إجراءات خلّفت هذا الشّقاق الانقسام، لقد استطاع سيادته في خطابه أن يعيد العزيمة والإرادة إلى الشعب الفلسطينيّ، من خلال التّأكيد على الوحدة الوطنية بين أبناء الشّعب الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، وحمل خطابه معاني الصمود والتحدي، والشجاعة والبطولة في التصدي لهذا الاحتلال الاستيطاني الإستعماري، وسكنت مشاعر الحزن والفرح والمأساة والعظمة عباراته، فاستطاع أن يضع المجتمع الدولي في تحدٍّ أمام نفسه لإنهاء هذا الاحتلال، وأن يتحمل مسؤولياته كاملةً تجاه الشعب الفلسطيني، وقضيّته العادلة؛ لينهي إحتلالًا طال، فأيّ الخيارات ستساند الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الغصن الأخضر أم بندقية المحتل بمستوطناته ؟، تبقى الأسئلة تعصف في ذهن المجتمع الدّولي، ويبقى لنا قول السّيد الرئيس: (الحرية لا تتجزأ، إما أنْ تكون حرًا أو لا حر).