الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاستراتيجيات الجامعية... وزرقاء اليمامة

نشر بتاريخ: 03/06/2018 ( آخر تحديث: 03/06/2018 الساعة: 10:16 )

الكاتب: صخر المحاريق

أكاديمي ومختص في التنمية المستدامة والموارد البشرية.
مما لا شك فيه أننا بحاجة ماسة جداً للتمعن في حقيقة كل ما حصل لنا في ماضينا البعيد والقريب، وكذلك في كل ما يدور من حولنا في حاضرنا، من أجل فهم وتوقع ما سيحدث لنا في مستقبلنا، وذلك فيما يخص جميع أعمالنا، وما يعترضها من مشكلات تواجهنا باستمرار، والتي يفترض أن يتم علاجها وفق معطياتٍ صحيحة، تحتم علينا تناولها جملةً وتفصيلاً، وفق تخطيطٍ متكاملٍ يعي حجم تلك المشكلات والأزمات، لتلافي حدوثها وتغولها قدر الامكان، ولا يتم ذلك إلا بوجود فهمٍ دقيقٍ وعميق، لبناء استراتيجيات ذات مرونة عالية في التكيّف، والتعامل المثالي تحت جميع الظروف.
إنّ مصطلحَ الاستراتيجيةِ في منشئِهِ الأصلي عسكري المفهوم، جاء تعبيراً عن فن ادارة وتوجيـه العمليـات العـسكرية الكبـيرة والعمليـات الخاصة، فهو يشير إلى علم وفن استخدام جميع موارد الدولة، للوصول الى هـدف الحرب وحتمية النصر، وادراك علم وفن التخطيط، والتكتيك، والعمليات، لضمان النتيجة الحسنة في المستقبل، في ظل ما هو متاح حالياً وما سيتاح مستقبلاً، فالاستراتيجية؛ عملية إدراكية شمولية ذات دور تكاملي، تنطلق من فهم الجزء لدوره في بناء الاطار الكلي، في ضوء قوة البصر والبصيرة معاً، (فزرقاء اليمامة) وهي قصةُ امرأةٍ عربيةٍ كانت ترى في الصحراء مسافاتٍ شاسعةً جداً، وكانت تحذّر قومها من قدوم العدو لغزوهم، فهي لم تكن تعتمد على قوة بصرها فقط، بل كانت عندها بصيرةٌ قويةٌ جداً كقوة بصرها، إذ حذّرت قومها ذات مرة من شجرٍ يسير في الصحراء، فلم يصدقوها وسخروا منها، وكان الأعداء قد علموا بقوة بصرها، فقطعوا الأشجار واستتروا بها حتى لا تكشفهم، إلى أن أطبق أعداؤهم عليهم وباغتوهم، فأدركوا صدق زرقاء اليمامة، ولكن بعد فوات الأوان، ولهذه القصة العربية مغزىً كبيراً في مقالتي هذه، سأعود إليها في ثنايا المقالة بمشيئة الله تعالى.
فهيا بنا نتصور معاً سناريوهات يمكن حدوثها في المستقبل، ومتطلبات تحدد رسم وصياغة تلك السناريوهات، بما هو متوفر في الحاضر، لاتخاذ قرارات تحدد المستقبل، فالتخطيط طويل المدى لا يتعامل مع القرارات المستقبلية، بقدر ما يتعامل مع مستقبل القرارات الحالية، وفي هذا المجال ليس هناك أصدق من أصحاب الخبرة والباع الطويل في سلك التعليم العالي، وأولهم رؤساء الجامعات ومجالس أمنائها، حيث شَخَّصَ رئيس جامعة بوليتكنك فلسطين في مقالة له بعنوان: (التعليم والتعليم العالي ... وماذا بعد؟) المؤشرات التي لا يمكن تجاوزها في بناء استراتيجيات التعليم العالي وهي: (عدم الاقبال على دراسة العلوم الأساسية بدءاً بالثانوية العامة وانتهاء بالجامعة، إضافة لزيادة تسرب الطلبة من المدارس، وانخفاض الثــقة بقيمة الدراسة الجامعية)، وفي نظري فهذه المؤشرات الثلاثة تعتبر تحليلاً دقيقاً (وطبياً) - إن جاز لي التعبير- لواقع التعليم والتعليم العالي في الوطن العربي عامة وفلسطين خاصة، وفي تشخيصه الثاقب هذا يأتي دور (زرقاء اليمامة).
وبناء على ذلك لو وضعنا جملة من الفرضيات تفيد بأن البطالة في فلسطين أقل من مثيلاتها في الدول العربية ذات السيادة والذهب الأسود، وفي قطاع خريجي التعليم العالي تزيد قليلاً، وافتراضنا أن هناك تخصصات لا داعي لها، ويمكننا الاستغناء عنها، وأن البحث العلمي في حدوده الدنيا، ولا يوجد تمويلاً حكومياً أو خارجياً كافياً للجامعات ومؤسسات التعليم العالي، في ضوء ذلك كله، ستبقى معدلات التسرب من المدارس في ارتفاعٍ متزايد، وسيزداد عزوف الطلبة عن مواصلة تعليمهم العالي، ولو سألنا أنفسنا كمؤسسات تعليمٍ عالٍ: ما هو دور التخطيط الاستراتيجي في هذا كله؟ وهل آن الأوان لإعادة النظر في خططنا المرسومة تلك؟ وذلك بالإجابة عن التساؤلات الآتية:
 ما هي أهمية الاستثمار المالي في تعزيز دخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي؟
 ما هي أهمية الاستثمار المعرفي والبحثي في استمرارية البقاء وسط تلك المشكلات وعلاجها؟
 هل الجودة هي معيار كمي أم نوعي وكيفي في قطاع التعليم العالي؟
 ما هو الدور المنوط بالجامعات في ظل تلك الظروف؟
 ما هو دور القطاع الخاص (وخاصة المهني والصناعي) ومساهمته في مؤسسات التعليم العالي باعتبارها من روافده البحثية والعلمية؟
عزيزي القارئ: دعنا نقف معاً عند جملة من الحقائق، والتي نلمسها اليوم واقعاً ثبت بالدليل الدامغ تأكيده دون أدنى شك، من خلال منشورات مراكز الاحصاء، والتي تُظْهِرُ دوماً حجم المشكلات التي تواجه قطاع التعليم عامة، والتعليم العالي خاصة، والمتمثلة في هيئة مشكلات ومعضلات بغمامة سوداء:
 الحقيقة الأولى: تشير إلى أن ظاهرةَ البطالةِ في مؤشرها العام بازديادٍ مطرد، في الأعوام من 2000-2016 في نسبةٍ تراوحت بين (14.3- 26.9)%، وذلك وفق احصائياتٍ عبّر عنها الموقع الرسمي للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء (PCBS)، وقد تراوحت في نسبتها أيضاً للخمس سنوات الأخيرة ما بين (23.7- 26.9)%، وهنا أتحدث عن المتوسط العام للكل الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن أخذ قطاع غزة المحاصر منفصلاً، ولو أخذنا على سبيل المثال " قطاع الخريجين" كأحد أهداف التعليم ومخرجاته الأساسية، لوجدنا أن معدل البطالة فيه للسنوات الخمس الأخيرة بلغ ما نسبته (45-53)%، حتى الربع الأول من عام 2017، هذا ما تحدث عنه أيضاً معالي وزير العمل الفلسطيني الأستاذ مأمون أبو شهلا، في مؤتمر السلامة المهنية والذي أقيم في جامعة بوليتكنك فلسطين خلال شهر نيسان المنصرم، حول تجاوز عدد العاطلين عن العمل المليون شخص في غضون السنوات القليلة القادمة، ناهيك عن تخمة قطاع التوظيف وخصوصاً الحكومي منه، وعدم قدرته على استيعاب هذا الكم المهول من الموظفين، وبالتالي حريٌّ بنا العملَ على تقليصِ تلك النسبِ قدر الامكان، والوقوف عليها بوعيٍ ونقدٍ ذاتي، وأخص بالذكر: الأكاديميين، والباحثين، والقائمين على هذا القطاع، للتنبؤ بخطورة تلك المؤشرات، لما لها وما عليها، والتي توجب على المنظومة برمتها التمعن فيها قياساً وتقيماً وتأثيراً لتفادي خطر مستقبلي داهم ومحدق.
 الحقيقة الثانية: تشير إلى أن المصدر الأساسي للدخل، أي السيولة النقدية الوحيدة لمؤسسات التعليم العالي الفلسطيني هو "أقساط الطلبة الفصلية"، إضافةً إلى ما تقدمه وزارة التربية والتعليم العالي من مخصصات مالية كمساعدات ضمن موازنتها المتواضعة، وبعض المشاريع الدولية الصغيرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهناك بلا شك علاقة عكسية تنشأ بين عزوف الطلبة عن مواصلة تعليمهم العالي، ودخل مؤسسات التعليم العالي من جهة، وبين زيادة البطالة وضعف الاستقطاب من جهة أخرى، ويظهر ذلك جلياً في بعض التخصصات الجامعية والتي ستؤول الأمور إلى حتمية اغلاقها يوماً ما، وقد ثبت ذلك العزوف بالدليل القطعي وفق الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2016، حيث أشارت الإحصاءات إلى أنّ معدلات التسرب الإجمالية، بمعنى: (الذين تركوا التعليم قبل إنهاء المرحلة التعليمية التي التحقوا بها)، وسط الشباب المتراوحة أعمارهم بين (15-29) سنة في فلسطين، قد بلغت 34%، أليست هذه النسبة فاقداً في الاستثمار، وضياعاً للفرص، وتقليصاً لبصيص الأمل الذي نتطلع إليه في ربوع الوطن الغالي فلسطين، وهنا أسأل المحللين الاقتصاديين والماليين: ما أثر ذلك على مؤسسات التعليم العالي؟، وما يتبعه من أثرٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ على البلد، كون التعليم هو محركُ التنميةِ والتحضرِ في أي بلد، فالتعليم ليس إعداداً للحياة ... بل هو الحياةُ نفسها.
 الحقيقة الثالثة: والتي تشير إلى أن البيئة المحيطة غير ثابتة وتتغير باستمرار، طالما أنَّ مؤشر الثواني يقطع دورته الكاملة في دقيقة واحدة فقط، وكذلك الساعةُ واليومُ والشهرُ والسنةُ بعد فواتها تصبح كالدقيقة، والحياةُ كلها تصبح ساعةً من نهار، في علاقة من التعاقب والتتابع، ينبغي على القائمين على التعليم الجامعي في فلسطين تحديد استراتيجيات فاعلة، بالتعاون مع الأكاديميين وأرباب الخبرة في سوق العمل، لتخريج مختصين في المجالات المختلفة وأهمها التعليم المهني والتقني، حتى يتسّنى لنا الانتقال من الاستيراد والاستهلاك، إلى الانتاج والصناعة، وهناك حالات صناعية وطنية، نشأت رغم سوء الظروف المحيطة بها، وأصبحت علامةً يشارُ إليها بالبنان، مثل صناعة الفرشات، والموازين، والاثاث المعدني، والألبان، والجلود، والأحذية، والحجر والرخام، وحتى في المجال الزراعي وقلةِ مساحةِ الأرض الزراعية المتاحة لنا، نستطيعُ التفوقَ على محيطنا، لو وضعت هذه الاستراتيجيات البناءة في التعليم العالي، وعندها نجعل شعبنا الفلسطيني (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ)، فكل العالم يتغنى بالعنب الخليلي، والموز الريحاوي، والبطيخ العرابي، والقمح السموعي، والبذنجان البتيري، والبرتقال اليافاوي، والكنافة النابلسية، فلماذا يلتصق الموز بأريحا وليس بالشونة المقابلة لها في الجانب الآخر من النهر.
 الحقيقة الرابعة: تشير إلى أنَّ الاهتمام بالبحث العلمي، والعمل على تطبيق نتاجه هو السبيل الوحيد نحو الابداع والابتكار، والتميّز للفعل والفاعل، فالاستثمار في المعرفة يحقق أفضل العوائد، من خلال استخدامه كأداة للبحث وصفاً وللتطبيق الملموس نتيجةً، وكنوعٍ من التطوير المستمر للمنطقة ومحيطها، في علاقة التأثير والتأثر المتبادلة، إذا ما اهتمت جامعاتنا وأرباب العمل بالبحث العلمي، وسعينا معاً لتطبيقه محلياً، سنقوم بلا شك بتخفيض البطالة، وزيادة الانتاج، والتصدير وليس الاستيراد، عندها سنستورد عمالاً وليس بضاعةً، وسوف نستوعب خريجين من البلاد المجاورة للعمل في فلسطين، بدل أن نذهب للعمل في بلدانهم، وسنعيدُ فلسطين سيرتها الأولى، فكما كانت يافا بالأمس اسطنبول اليوم، تستقطب عمالاً من الجزيرة العربية، والخليج، واليمن، ومصر، والمغرب العربي للعمل في فلسطين، وأشير هنا إلى دور الكفاءات الفلسطينية التي تخرجت من الجامعات المحلية والعالمية، والتي استطاعت بناء منظومات التعليم، والصحة، والبنية التحتية، والعمران، في كافة البلدان العربية بلا استثناء.
وفي الختام عزيزي القارئ الكريم، نحن دوماً نقول أن الحالة الفلسطينية حالة استثنائية، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وخصوصاً في قطاع التعليم الذي هو سلاحنا الأقوى على الدوام، بدءً بالتعليم الأساسي ومروراً بالثانوي فالجامعي، فنحن نعيش حرباً ضروساً وغطرسةً لا مثيل لها في التاريخ، في ظل أبشع احتلال عسكري غاشم، ونعيش المخاض العسير في الثواني والدقائق والسويعات الأخيرة، بسبب الظروف الاستثنائية لشعبنا العظيم، ولمؤسساته الوطنية العتيدة، وأنا شخصياً أفتخر بشهادات جامعية من جامعاتنا الوطنية المرموقة، فلها سمعتها ولها روادها في كل مكان، رغم أنها تعاني الاضطهاد والظروف القاسية، وعلى ضوء هذه المقالة، أدعو أصحاب القرار إلى عقد مؤتمرٍ وطني، خاص بالتعليم الأساسي والتعليم العالي في فلسطين، ورسم استراتيجياته، لمناقشة حالتنا الفلسطينية، يدعى إليه مجالسُ الأمناء، ورؤساءُ الجامعات، وأكاديميون، وباحثون، ومدراءُ المدارس، وأربابُ العمل، ورجالُ الأعمال، ويكون ذلك دورياً وسنوياً، يصدر عنه قرارات، وتوصيات، ولجانٍ فنيةٍ وتنفيذيةٍ ورقابية، تستضيفه الجامعات الفلسطينية بالتناوب، فنحنُ اليومَ بحاجةٍ ماسةٍ لمثل هذه المؤتمرات، لبناءِ الوطنِ والدولةِ القادمة بعون الله ثم بسواعد الأحرار، من علماءَ وأطباءَ ومهندسينَ ومعلمين، فيجب علينا النظرَ بالعيون الثاقبة، وبقوةِ البصرِ والبصيرة، (كزرقاء اليمامة)، ونحن كلنا ثقة بمؤسساتنا الوطنية العتيدة، وعلى رأسها وزارتي التربية والتعليم والعمل، وهي تنتهج الخطوة تتلوها الخطوة، لترسم مستقبلَ أجيالنا، ونكون بحقٍ شعبُ الجبارين، كما قال الله عز وجل على لسان بني اسرائيل: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ)، وأَرْدَفَ بقولها مراراً وتكراراً القائد الرمز "أبو عمار" ياسر عرفات رحمه الله.