الأحد: 28/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الثقافة الفلسطينية تلتحم بعمقها العربي في وجدة المغربية

نشر بتاريخ: 03/01/2019 ( آخر تحديث: 03/01/2019 الساعة: 11:21 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

مدينة وجدة المغربية التي تبسط وجودها جغرافيا وثقافة وتاريخا شرقي البلاد، وليس ببعيد عن الحدود المغربية- الجزائرية، احتضنت الأيام الثقافية الفلسطينية ضمن فعاليات " وجدة عاصمة الثقافة العربية للعام 2018"، حيث تشرَّفت أن أكون عضوا في الوفد الثقافي الذي شكلته وزارة الثقافة للمشاركة بإلقاء محاضرة عن الثقافة الفلسطينية وتحديداً حول التجربة الإبداعية للأسرى.
كانت الزيارة إلى المغرب الشقيق معبأة بالمشاعر والإنشداد لشعب له بصماته التاريخية في القدس، لا سيما وأن هناك اختلاطاً فلسطينياً مغربياً في الدم والنسب والأخوة، لتتوج هذه العلاقة بانصهار كلي في المصير ذاته، خاصة وأن عائلة المغاربة في القدس شاهد على تركيبة اجتماعية قال فيها المصير المشترك كلمته المضمخة بالدم والميرمية والنعناع والنرجس البلدي، في بلاد كانت مفتوحة للإخوة العرب وما زالت أبوابها مشرعة لهم، رغم القيود والأسلاك الشائكة والحواجز، فإذا كانت الجغرافية مقيدة بالإجراءات وأوامر المنع، فإن القلوب الفلسطينية النابضة بالحب مفتوحة على مصاريعها تحتضن العروبة في النياط والحنايا تنبض بلغة الضاد، كما تنطق الحناجر بهذه اللغة ليمتزج نبض الكلام أو كلام النبض بما تردده الحناجر والألسن والشفاه، وما تبثه مفرداتنا وتطرزه على لوحات الروح.
أجل أن يكون الفلسطيني حاضراً في وجدة المغربية في عرسها الثقافي كعاصمة عروبية، يعني أن تكتب الثقافة الفلسطينية صوتها ولونها وموسيقاها ومخملية انسيابها وجرأة انبجاسها وتعابير بلاغتها على بوابة كل بيت في وجدة تقول لساكنيه: إننا نحن حيث أنتم، لأنكم أنتم حيث نحن، وأمام هذه الجدلية لن تستطيع أية قوة على وجه الأرض أن تقتلع قصائدنا من أفئدة بساتيننا أو أن تجهض قصصنا التي تكسو سهولنا خصوبة وبهاءً، ولن يكون بمقدور أي عابث أن يلوي أعناق نصوصنا المسرحية أو يسكت أغانينا التي ما انفكت تصدح، ليصبح زيتوننا ليس مصدر ادرار زيت فحسب، وإنما أيضا مستجيب ومتفاعل نشط مع إبداعات وعينا الروحي.
وفد ثقافي رسمي وشعبي مشترك حمل إلى وجدة وهج ثقافتنا الذي لا ينطفىء وحلم ووجع زهرة المدائن، فكان للكلمة حضورها كما كان للصورة وقعها وتأثيرها. تمثلت بداية المشاركة الفلسطينية، بمعرض "عيون عربية" الذي تضمن صور فلسطينية التقطتها عدسات عدد من المصورين العرب. كانت الصور المعروضة طافحة بالألم والمرارة، لكنها جسدت في المقابل تشبث الفلسطينيين بالحياة. وقد كثف المصور الفلسطيني جمال العاروري في كلمة مقتضبة الهدف من المعرض ودلالة التكامل العربي على مستوى المصورين والصور، ثم قدمت الفرقة القومية للفنون الشعبية عرضين ناجحين، حيث استقبلت وصلاتها الغنائية بحماسة من قبل أهل وجدة الذين حضروا للاستمتاع باغان، منهم من سمعها قبل ثلاثة او أربعة عقود، ومنهم من استمع إليها لأول مرة.
أسعدت الفرقة القومية الجمهور بروحها الفلسطينية المنتمية. كانت الفرقة لا تغني فقط وإنما تتنسم كلمات وموسيقى الأغاني كما يتنسم أعضاؤها الهواء. غنت الفرقة وتنسمت وأبدعت، ومن حق أعضائها علينا أن نذكرهم ونشكرهم واحداً واحداً احتراماً وتقديراً لجهدهم، ونقصد بالتحديد كلا من: الفنان علاء زهران- عازف الكمان وقائد الفرقة، واسماعيل كرزون- عازف الاورغ، وأمين عزيز- ضابط الإيقاع، ومحمود كرزون- الدف. أما في الغناء فقد تألق أربعة مبدعين وهم: إحسان سعادة وإبراهيم عاشور ووسام صايغ وكريمة نخلة. فيما اضطلع بمهمة التنسيق والمتابعة والإدارة: محمد حماد وعثمان عرموش.
أما في الندوات فإن الجهد الذي بذله المحاضرون كان مثمراً، إذ اجتهد المشاركون في تقديم محاضرات ومداخلات قيمة عبرت عن خبرات وخلفيات المحاضرين وهم: الشاعر د. المتوكل طه والكاتب والروائي مهند الأخرس والروائية مايا أبو الحيات ود. حسن عبدالله.
وفيما يتعلق بالمعلومات والمعطيات والأرقام التي قدمت حول القدس وما تتعرض له جغرافياً وسكانياً وثقافياً، فقد كانت حصيلة جهد خمسة من ذوي التجارب اللافتة، ونذكر هنا د. المتوكل طه الذي أطلق كتابه في وجدة بعنوان " باب الأسباط" الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية، واللواء بلال النتشة الأمين العام للمؤتمر الشعبي في القدس، ود. يونس العموري وكيل المؤتمر الشعبي، والأستاذ خليل قراجة الرفاعي عميد مؤسسة احياء التراث والبحوث الإسلامي، والفنان أحمد أبو سلعوم الذي جاء إلى وجدة من تونس بعد أن تم تكريمه في قرطاج على مجمل ابداعاته ونتاجاته المسرحية، إضافة إلى دور موظفي وزارة الثقافة في المتابعة وهم: مهند ذويب وهو شاعر شاب، ألقى كلمتين مؤثرتين خلال الأيام الثقافية الفلسطينية في وجدة، والسيدة ابتسام الرابي مديرة الوزارة في سلفيت والفنان وليد أيوب ورائد فارس مستشار الوزارة لشؤون المتاحف. وواكب هذه الأنشطة حضورا ومتابعة مستشار أول/نائب السفير الفلسطيني د. علي قباجة.
وبالانتقال من الثقافة إلى مدينة وجدة المدنية والجغرافيا التي احتجنا إلى ست ساعات من الزمن في الحافلة لنصل إليها قادمين من الرباط، وكان ذلك بالنسبة إلينا فرصة مواتية للتعرف على جزء مهم من الجغرافيا المغربية المعروفة بتنوعها وجمالها الأخاذ، فأينما تنظر تستقبلك سهول واسعة منبسطة مزهوة بخضارها، مطرزة بالزيتون وقطعان المواشي التي تدب على أرض تفوّر خصوبة، تأكل من عشبها وتشرب من ماء يتدفق من أودية وجداول تظهر أمامك فجأة مخترقة السهول، ومضفية على المشهد الطبيعي روعة مزدوجة بين حقيقة وخيال، يتعانقان على طول وعرض سهول يخيل لك أن لا نهاية لها.
حينما وصلنا وجدة سارت بنا الحافلة في شوارع نظيفة وأرصفة مبلطة بشكل هندسي ونوافير ترتفع مياهها وتهبط بحنو وكأنها تخشى أن تؤذي ساحات فسيحة تمتد في كل مكان.
في وجدة يتحرك الناس بهدوء ويبتسمون لك بهدوء، وإذا اصطدم كتفك بكتف أحدهم يقول لك "سامحني" مع أنك أنت الذي أخطأت. إنه تسامح وتصالح مع النفس في الشارع والسوق والفندق والمطعم والمركز الثقافي وفي كل مكان.
وعندما يعلم البائع اسم بلادك، فسرعان ما يغمرك بالحب والدعاء ويمطرك بسيل من الأسئلة عن وطن يتوق لزيارته يوماً.
مدينة وجدة تبعد أقل من عشرين كيلو متر عن الحدود الجزائرية، حيث نظمت وزارة الثقافة المغربية زيارة للوفد إلى منطقة صعدة، وفي الطريق شاهدنا سلسلة الجبال التي توصل الدولتين، وكانت الأعلام الجزائرية على الحدود واضحة للعيان. قرأنا من أرض المغرب على أرض الجزائر السلام، فنحن الفلسطينيين نحب الجزائر كما نحب المغرب، ونتمنى للقطرين الشقيقين الأمن والأمان.
انتهت زيارتنا إلى وجدة وانتقلنا إلى مدن مغربية أخرى، يتطلب الحديث عنها مساحة أوسع من مقال، ويكفي القول إن مسجد الحسن الثاني يحتاج وحده إلى سلسلة مقالات متخصصة تتناول الفن العمراني المدهش، لمسجد هو في حقيقة الامر معجزة فنية ممهورة بأمواج الأطلسي التي تسبح بخشوع في رحاب المسجد.
ودعنا المغرب ونحن نتمنى أن تحافظ بلداننا العربية على وحدتها واستقراراها أمام محاولات التجزئة والشرذمة، فشعوبنا تتوق لثقافة ترتقي بالحياة لا لثقافة تصدر الموت وتروج له. شكراً لوزارة الثقافة المغربية على حُسن ضيافتها واحتفائها بضيوف فلسطين، وشكراً لوزارة الثقافة الفلسطينية التي تصر على المشاركة في كل المناسبات الثقافية العربية والثقافية، كل تظل فلسطين حاضرة إلى جانب شقيقاتها، فالثقافة هي مكوّن وحدوّي شديد الأهمية وهي تحفر في عمق البعد الاستراتيجي. ومعلوم أنه بمعزل عن ثقافة معرفية تقدمية يظل السياسي يتدحرج على السطح ولا يتغلغل في العمق، فإذا نهض الثقافي، فإن السياسي سيرتفع سقفه نهوضاً ولو بعد حين.