الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

المواطنة العميقة نتاج رعاية ورفاه وثقافة وليس مجرد شعارات

نشر بتاريخ: 29/01/2019 ( آخر تحديث: 29/01/2019 الساعة: 17:22 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

المواطنة العميقة هل هي ثقافة أم اعتقاد أم سلوك وممارسة؟ وكيف يتحقق العمق في المواطنة أو ما هي مواصفات المواطنة العميقة؟ بدأت مقالي متسائلاً، لكي يكون السؤال هو المدخل، مدركاً أن موضوع السؤال يصلح لبناء دراسة متكاملةً عليه. وحينما نقول إن المواطنة العميقة يتم التعبير عنها بالسلوك و الممارسة، فإنه يقف خلف ذلك مجموعة من العوامل منها:- احترام الدولة لمواطنها، و انصافه حقوقياً على مستوى العمل والتعليم و الصحة و الأمن و الضمان الاجتماعي، إضافة إلى تمتعهِ بالحرية بعيداً عن الملاحقة والتدخل في حياته و معتقده، الأمر الذي من شأنه أن يشكل في وعيه شبكةً مفاهيميةً راسخةً حول المواطنة تنتظم في سياقين واحد منهما معرفي و الثاني زمني، و عندما نقول زمني نعني أن تبلور المفاهيم ومن ثم رسوخها يتطلبُ سياقاً زمنياً، لتصبحَ المواطنة جزءاً أصيلاً في الثقافة على مستوى الوعي و الإيمان والتعبير عن ذلك في الحياة اليومية بشكلٍ طبيعي وتلقائي بمنأى عن التعرض لانتهاكات أجهزة السلطة الحاكمة في بلدٍ ما وتدخلها في حياة المواطن الشخصية، لقولبة سلوكه وفق الزام واكراه.
ما الذي يفسر سلوك مواطن تناول علبة مشروب غازي وقذف بها إلى الشارع من نافذة سيارته؟ يؤكد هذا السلوك أن من قذف العلبة الفارغة، تصرف على أساس أن الشارع لا يعنيه، ولا يعنيه أيضاً المارة من أبناء قريته أو مدينته، وإذا كان الشارع لا يعنيه، فإن ذلك ينسحب على المرافق العامة الأخرى. أما في بيته فيحرص على النظافة وعلى أن يكون كل شيء مرتباً، على اعتبار أن بيته هو ملكيةٌ خاصة له ولا شراكة للأحد فيه.
المستهتر يرى في الشارع و المرافق العامة ملكاً لدولةٍ لا تقدم له شيئاً ولا تخدمه، و بالتالي لا يحترم مرافقها ويفصل نفسه عن هذه المرافق، ويعيش حالة اغتراب في وطنه، ويصبح معادياً لكل ما هو عام
ويعبر عن ذلك بشكل صارخ في أية محطة احتجاجية، ولا يتورع عن تحطيم وتكسير المرافق و المنشآت.
مقابل هذه الصورة أسجل صورة أخرى من خلال موقف رواه لي أكاديمي ذهب إلى دولة أجنبية متقدمة للحصول على درجة الدكتوارة، و صدف أن أصيب في أحد الأيام بنزلة صدرية نجم عنها سعال حاد، وقد بصق في منديل ورقي ودون تفكيررماه في الشارع امتثالاً لعادة يمارسها في شارع بلدته، فإذا بعجوز كان يقف في المكان ينحني و يتناول المنديل القذر و يتوجه إلى سلة القمامة ليضعه فيها، دون أن يلتفت إلى الفاعل أو يلومه أو يشعره أنه مذنب، فهو لم يسعَ لإحراجه.
الأكاديمي الذي روى هذه القصة أكد أنه تعلم من سلوك العجوز ما لم يتعلمه في أية مرحلة من حياته، وأنه شعر أمام نفسه بالخجل.
العجوز هنا بسلوكه أكد مواطنة منتمية، والأكاديمي الذي جاء إلى بلد غربي حاملاً عاداته الفردية التي تعكس اللاانتماء كشف النقاب عن مواطنة متشظية سافرت معه إلى بلد غير بلده.
لقد أشبع المواطن العربي من طفولته وحتى مغادرته الحياة إلى القبر، و هو يستمع لشعارات عن الوطن
والمواطنة و الوطنية، و ضرورة الالتزام و الانتماء و التضحية، وربما تشحن هذه الشعارات المواطن بعض الوقت، لكنها لا تفعل ذلك طوال الوقت، لا سيما إذا لم تُسند باحتضان من قبل الدولة لإنسانيته حماية
وصونا و اهتماما ورعاية و تطويرا. فالمواطنة الحقة تتجلى بأجمل صورها عندما يشعر المواطن أن الشارع شارعه، وأنه شريك حقيقي في سوق مدينته و في مدارسها و مرافقها، فيحافظ على الممتلكات العامة كما يحافظ على ممتلكاته الخاصة.
والحقيقة تنقصنا في العالم العربي المواطنة الحقيقية التلقائية النابعة من قناعة وحب للدولة والمجتمع، لأن هذه المواطنة تتطلب أولاً أن يشعر الإنسان بحريته. وثانياً أن تتوافر له حقوقه كاملة في المجالات الأساسية و الحيوية كافة. و ثالثاً وإضافة إلى المتطلبات الأساسية يحتاج المواطن إلى نوع من الرفاهية، فالاحتياجات الأساسية للمواطن سبق وأن وفرتها الدول الاشتراكية من حيث التعليم و الصحة
والكهرباء و الغاز و المواصلات و السكن، بيد أنها لم توفر لمواطنها الرفاهية وحرمته من وسائل استهلاكية يومية كان يشعر أنها متوافرة للمواطنين في الدول الرأسمالية فانشد إلى الترفيه وتناسى الأساسي وفقد توازنه و اتزانه، فانقلب على الاشتراكية ليجد بعد بضع سنوات أنه مضطر لبذل جهد كبير من أجل توفير الأساسيات، بمعنى أن الدولة مطالبة بتحقيق التوازن في توفير متطلبات الحياة الضرورية، إلى جانب توفير مساحة رفاهية معقولة في حياة المواطن من دخل و سيارة و لباس و أدوات ووسائل توفر له الراحة في بيته و في حياته بشكلٍ عام، وبذلك يتأكد أن مجتمعه يحترم إنسانيته وإنسانية أطفاله وزوجته وإنسانية جيرانه ومعارفه، بل وإنسانية المجتمع بأسره، حينذاك لا يحتاج المواطن لحشو رأسه من قبل السلطة الحاكمة بالشعارات التي تدعوه وتحثه لكي يكون مواطناً حقيقياً منتمياً.