نشر بتاريخ: 11/07/2019 ( آخر تحديث: 11/07/2019 الساعة: 11:04 )
الكاتب: عيسى قراقع
التقرير الذي نشرته صحيفة هارتس الإسرائيلية يوم 5/7/2019 وكشف من خلاله وثائق إسرائيلية تؤكد ارتكاب إسرائيل مجازر دموية فظيعة بحق شعبنا الفلسطيني عام النكبة 1948، وممارسة سياسة التطهير العرقي بحق شعبنا وقرانا ومدننا التي هدمت ونهبت وسلبت بأوامر وتعليمات رسمية من قيادات العصابات الصهيونية في ذلك الوقت، هذا التقرير يرد على ادعاءات إسرائيل المستمرة بان اللاجئين الفلسطينيين خرجوا من أماكنهم طوعا وبتحريض من الدول العربية، وان إسرائيل غير مسؤولة قانونيا و سياسيا وأخلاقيا وإنسانيا عن النكبة وتداعياتها، وهي رد واضح على سياسة تزوير التاريخ ومحو تاريخ الآخرين الذي تمارسه المؤسسة السياسية والتربوية والتعليمية في دولة إسرائيل، ومحاولاتها تشويه الرواية الفلسطينية ومحو النكبة من الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
الوثيقة التي كشفتها صحيفة هارتس تأتي في سياق مئات الوثائق الأخرى التي كشف عنها سابقا وحررت بصعوبة من الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، وفي كل وثيقة جديدة يكشف عن مجزرة جديدة، هذه الوثائق هي إدانات واضحة بارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق شعبنا الفلسطيني والتسبب بأكبر مأساة إنسانية تعرض لها شعبنا في العصر الحديث.
من المهم الاطلاع على كتاب "لمعاينة الجمهور، الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية" للمؤلفة الإسرائيلية رونة سيلع، وهو أول كتاب يبحث بشكل شامل التاريخ الفلسطيني البصري والمكتوب في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، وقد خلصت الباحثة ان الاستعمار الصهيوني الكولونيالي لفلسطين عام 1984 وصولا إلى الوضع الراهن لم يتم في الحيز الجغرافي فحسب بل أيضا في حيز الوعي والذاكرة بواسطة منظومات محو وإخفاء والعمل على إنتاج معرفة ورواية تاريخية بديلة.
حرب إسرائيل على الوعي هو محور دراسات إستراتيجية لصالح المؤسسة الرسمية في إسرائيل يقوم بها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب ومعهد أبحاث منهج الاستخبارات في مركز تراث الاستخبارات في إسرائيل، وهدف الحرب على الوعي حسب الدراسات هو جعل الجماهير الفلسطينية المستهدفة تتبنى مفهوم الواقع المادي والثقافي المهيمن عليه من الاحتلال.
النكبة لا تزال مدفونة وماسورة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، ففي هذه الأرشيفات كنوز ثقافية وتاريخية تم نهبها، ممتلكات، آثار، وتفوح من كل وثيقة رائحة مقابر وجثث ودماء، ورائحة أسرى ومعسكرات، رائحة أطفال شردوا ونساء اغتصبن، ملامح حياة تم إزالتها، جرائم ودمار واسع حل بالكيان الفلسطيني، هذه الأرشيفات لا تزال مغلقة ومقيدة وتخضع للرقابة، تخشى إسرائيل الكشف عنها لأنها تشكل إدانة واضحة بارتكابها جرائم حرب يعرضها للملاحقة والمسائلة والمحاسبة.
الأخطر في هذه الوثائق المحجوزة منذ أكثر من سبعين عاما أنها تتعرض للإتلاف أو التحوير والتفسير والشطب وإخفاء المعلومات في محاولة لكتابة رواية النكبة بطريقة مختلفة والسيطرة بذلك على رواية الشعب الخاضع للاحتلال، فإسرائيل تستثمر جهودا جبارة لإعادة كتابة التاريخ لصالح الرواية الرسمية الصهيونية لإخفاء التاريخ الأصلي واستبداله بتاريخ المحتل وأساطيره وخرافاته التوراتية.
سبق للباحث والمؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه ان كشف أيضا عن وثائق خطيرة نشرها في كتابه الهام:" التطهير العرقي في فلسطين"، والذي يبين فيه جرائم طرد الفلسطينيين من وطنهم عام 1948 معتبرا ان هذا الحدث المصيري جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه ولا يزال حتى الان غير معترف به كحقيقة تاريخية من قبل حكومات إسرائيل، متهما السياسيين والجنرالات في اسرائيل ارتكاب جريمة تطهير عرقي بحق الفلسطينيين عام النكبة.
المؤرخ الاسرائيلي بني موريس اعتمد في كتابته عن النكبة حصرا على وثائق الارشيفات العسكرية الاسرائيلية، وخلص الى نتائج وان كانت جزئية بان الصورة التي رسمها الاسرائيليون لانفسهم بانهم خاضوا حربا اخلاقية عام 1948 ضد عالم عربي بدائي وعدائي مجافي للحقيقة وللمصداقية.
الكثير من الروايات الفلسطينية التي سجلت في التاريخ الشفوي تتحدث عن النكبة وأهوالها وعن الحضور الفلسطيني النابض بالحياة الحضرية والثقافية قبل النكبة يفترض ان تضاف الى مجموع الوثائق لملاحقة وإدانة إسرائيل على ما ارتكبته عام 1948 وإمعانها في الإنكار والإخفاء والتهرب من المسؤولية عما جرى بحق شعبنا وتدمير مستقبله وحياته وتحويله إلى لاجئين.
شهادة صحيفة هارتس وغيرها من الشهادات التي تمكن الباحثون من تحريرها من الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية لها أهمية سياسية في التصدي لمخططات ومؤامرات تصفية قضية اللاجئين ودفن النكبة في النسيان وفق ما يسمى صفقة القرن الأمريكية وورشة المنامة في البحرين وتصريحات نتنياهو العنصرية الاخيرة التي تنكر وجود الشعب الفلسطيني على هذه الأرض.
ان كان هناك عجز في فتح ملف النكبة أمام القضاء الدولي فانني اقترح إجراء محاكمة إنسانية شعبية دولية لإسرائيل عما اقترفته عام 1948، وليتحدث الضحايا والشهود والوثائق عن تلك الجرائم التي ارتكبت، هي حرب إسرائيلية على الوعي يجب ان نواجهها ونحمي روايتنا وحكايتنا وضحايانا الذين قبروا تحت أنقاض بيوتهم أو في المنافي واختفت ملامحهم وجرفت ذكرياتهم تحت وابل القوة القمعية الكولونيالية الإسرائيلية.
لنضع هذه الوثائق والحقائق لتكون مرآة امام الراي العام والمجتمع الاسرائيلي، غالبية الاسرائيليين مخدوعين لا يبصرون ولا يدركون هذا التاريخ، لا سيما ان ما يدرسه الاسرائيليون عن التاريخ قد خضع لجهاز قمعي قوامه السيطرة والمحو والمراقبة واعادة الكتابة واخضاعها للمضامين الصهيونية الدينية والعنصرية.
ان هذه الرحلة الضرورية الى ماضينا القريب وفتح ذاكرتنا على المستقبل هو الوسيلة للتقدم الى الامام والحفاظ على هويتنا وعروبتنا وحقوقنا المشروعة، ان استرداد تاريخنا من النسيان هو معركة الحاضر الاساسية.
صادف كشف الوثيقة في صحيفة هارتس مع مرور الذكرى ال 25 لرحيل الشاعر الكبير توفيق زياد الذي وجه رسالة إلى الإسرائيليين قائلا:
يا سادتي... حولتموا بلادنا مقابر
زرعتم الرصاص في رؤوسنا، نظمتم المجازر
يا سادتي... لا شيء هكذا يمر
ودونما حساب
فكل ما صنعتم لشعبنا
مسجل على دفاتر