الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

"الاسيتون" الفلسطيني مفقود في لبنان: "اللوبي" هو الحل

نشر بتاريخ: 20/07/2019 ( آخر تحديث: 22/07/2019 الساعة: 09:23 )

الكاتب: زاهر أبو حمدة

يختلف نوع التأثير حسب الامكانيات وأوراق الضغط. حصل أن مجموعة منبوذة استطاعت أن تؤثر على حكومة بريطانيا العظمى وتنتزع وعودا وقرارات، لانها تملك طريقة تخمير "الاسيتون" فقط.
استطاع أول رئيس للدولة العبرية أن يدمج بين اختصاصه الكيميائي وهوايته للتجارة والتسويق واهدافه العقائدية والسياسية. تمكن من تسجيل براءات اختراع عديدة مثل صناعة الطلاء وتطوير انتاج زيت الكافور والمطاط الصناعي عبر تركيبه مادة اساسية عبر البكتيريا المعزولة من الذرة تنتج "البيوتانول" و"الاسيتون". وفي الحرب العالمية الاولى عام 1914، ارتفع سباق التسلح في العالم وظهرت التكنولوجيا لصناعة الاسلحة الهجومية مثل الذخيرة السامة للتفوق في حرب الخنادق. وهنا أتى دور وايزمان، فبعد ابتكاره طريقة متقدمة في التخمير الصناعي لكميات ضخمة من "الاسيتون" المهمة جدا في صناعة "الكوردايت"، أعطى الحكومة البريطانية طريقة التخمير لتستخدمها في الحرب العالمية، وهكذا اصبح مدللا عند صناع القرار في المملكة المتحدة.
تكمن أهمية "الكوردايت" (خليط من البارود ومواد تفجيرية قوية) أنه حل مكان انواع كثيرة من الذخيرة، ويعمل على كثافة اطلاق النار وتقليل الحرارة الناتجة عن الرماية، ولا يؤدي احتراقه إلى إنتاج الدخان، وبالتالي لا يكشف عن موقع البنادق والجنود. وكان "الأسيتون" أساسيا لإنتاج "الكوردايت"، وكان يُنتج من تكرير المعادن في بريطانيا بعد استيرادها من ألمانيا وأوروبا الوسطى. فلمّا أصبحت ألمانيا دولة معادية، كان على بريطانيا أن تجد مصدرا آخر لكميات كبيرة من الأسيتون، وبسرعة. هنا لمع نجم وايزمان، والبكتيريا التي جهزها سابقا. فاستجاب لدعوة مكتب الحرب البريطاني وقدم لهم البكتيريا وعملية إنتاج "الأسيتون". كما أعطى الحكومة الحق في تطويرها. وبعد وقت قصير من تعيين وايزمان، مديرا لمختبرات البحرية الملكية البريطانية، رفع إنتاج "الأسيتون" الصناعي، وانقذ أزمة القذائف البريطانية في الحرب المبكرة، وأسهم في انتصار الحلفاء. وفي خلال الحرب العالمية الثانية، امتدت خدمات وايزمان، الى الولايات المتحدة، فلولا الـ"الكوردايت" ما كانت القنابل الذرية الاميركية التي سقطت على هيروشيما ونجازاكي في اغسطس/ آب 1945؛ وتكريماً له اطلق البريطانيون اسمه (وايزمان) على البكتيريا المسؤولة عن إنتاج "الأسيتون".
ترأس وايزمان، المنظمة الصهيونية العالمية بين عامي 1920 و1946، اضافة الى أنه كان ضابط الارتباط بين بريطانيا والمنظمة، وشارك في مناقشات اصدار "وعد بلفور" عام 1917. ولذلك نعرف تأثير شخص واحد على تغيير مسار تاريخ وامكانية اللعب في الجغرافيا. فهو استغل اختراعه العسكري وحاجة المملكة المتحدة له، وانتهز فرصة علاقته الوطيدة بونستون تشرشل، وديفيد لويد جورج، للضغط على بريطانيا لتحقيق اهدافه وسرقة فلسطين واقامة دولة اسرائيل.
نذكر ما حصل مع وايزمان، المولود في روسيا والمؤثر في بريطانيا، لنشير الى أن شخصا يملك امكانيات معينة يمكنه أن يغير قرارات كبرى، هذا ما فعلته عائلة روتشيلد تاريخيا، ويفعله حاليا شيلدون اديلسون، مع دونالد ترامب. لذلك لا بد من الاعتراف أن قيمة التأثير في صناعة القرارات العالمية ضعيف في موازاة الضغط الصهيوني ولا سيما مع وجود منظمة "آيباك" في أميركا. لكن الموقف الفلسطيني يرتفع عالميا في دول كثيرة ووصول رشيدة طليب، الى الكونغرس دليل على ذلك. أما في دولة صغيرة مثل لبنان لا نستطيع التأثير على وزير عمل أو حزب لبناني لديه عدد قليل من النواب في البرلمان، لماذا؟
عند كل أزمة أو عند التفاخر الفلسطيني بانجازاته في لبنان، نعود الى مقال الزميل طلال سلمان، تحت عنوان "الفلسطينيون جوهرة الشرق الاوسط" ونذكر انجازات ومساهمات اجدادنا وهذا جميل؛ لكن التغني بالتاريخ من دون ملاحظة الواقع او المستقبل يندرج في اطار العطب الذاتي والعقم في انتاج نخبة مؤثرة في المجالات كافة. ولا بأس من التفكير بصوت عالٍ: نحن لا نملك قوة ضغط او جودة في التأثير عند صناع القرار اللبنانيين مع أننا كلاجئين فلسطينيين لدينا قدرة اقتصادية مجتمعية وعلاقات سياسية مع الاحزاب اللبنانية. قدمنا تنازلات لدرء الهواجس اللبنانية من دون نيل الحقوق مع أننا ننفذ واجباتنا.
أثبت اللاجئون كشعب واحد يملك رؤية وبحاجة الى قيادة ونخب بمستوى تطلعاته. وانها اهانة كبرى أن يرسل الفصيلان الكبيران مبعوثين لتمثيل اللاجئين وكأنهم لا يملكون القدرة على التفاوض او ابراز موقفهم. وهذا التعاطي الفصائلي يجعل الشعب يكفر بممثليه لانهم لا يدركون وجع من يتظاهر ولماذا؟ إنها فرصة تاريخية لانتزاع الحقوق الانسانية جميعها، ولا بد من التفكير خارج الصندوق. ولا بأس من جلد الذات قليلا قبل جلد المؤسسات اللبنانية لمعرفة مكامن الخلل.
المشكلة الاساسية أن اللاجئين في لبنان طبقتان. طبقة مسحوقة جدا واخرى مرفهة كثيرا. وللاسف أن غالبية قيادات الفصائل من الثانية وأنصارهم من الاولى. ولا بأس باعطاء الفتتات لنيل رضاهم وعدم الصراخ بوجههم. حين كنا طبقة مجتمعية واحدة كان لدينا مشاريع اقتصادية مشتركة. ولم تفكر الفصائل بعد خروج الزعيم ياسر عرفات من لبنان، ان تنشئ مصانع منتجة، تشغل اللاجئين اولا وتكسب ارباحا في المقام الثاني. كم هي تكلفة مصنع "البان واجبان" مثلا، وكم عائلة يمكن ان تعيل؟ ويلاحظ أن اصحاب المشاريع ورؤوس الاموال وهم معروفون في مجتمعنا، أول من يستغل اللاجئين. عائلة "ب" في صيدا، على سبيل المثال، تحتكر قطاع المواد الغذائية والتبغ والدخان وغيرها من العائلات والشخصيات تسيطر على سوق العقارات؛ لكنهم اذا شغلوا فلسطينيين استعبدوهم بدوام طويل وراتب زهيد. هذا يحصل للاسف! فقد قسم كبير من الاثرياء الاحساس بالفقراء، وهذا طبيعي من الناحية النفسية لأن غالبية الاثرياء كانوا فقراء وتراهم ينتقمون من ماضيهم البائس عبر استغلال من هم دونهم بالمستوى المعيشي. ندعو الرزاق العليم أن يزيد رزقهم، لكن لا بد من تكافل اجتماعي بين الطبقتين لنكون اسوياء معيشيا على الاقل.
لنكن اقوياء في مجتمع لا بد من التأثير فيه ايجابيا، وتشكيل "لوبي" ضاغط عبر سياسيين ورجال اعمال ونخب ثقافية واعلامية وعلاقات عامة بعيدا عن الحسابات الفصائلية الضيقة. وهذا "اللوبي" عمل على تكوينه الشهيد كمال مدحت، لكن للاسف ليس موجودا بيننا، لنسأله عن حالنا ومستقبلنا، وكيف يمكن أن يكون لدينا "أسيتون" فلسطيني فاعل في لبنان.