الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

أسماء عزايزة في " لا تصدّقوني .." تفحّ بالنار المُقَطّرة

نشر بتاريخ: 04/08/2019 ( آخر تحديث: 04/08/2019 الساعة: 13:05 )

الكاتب: المتوكل طه

أراني أمام نصوص ضارية، ومفاجئة مثل زلزال ، تطوّحُ الكلامَ الملتهبَ لتعيد هندسته على صورة غير معهودة ، تجرفك وتسربلك وتحاصرك .. ولا تنجو منها .
هي نصوص تحطّم الجاهزَ المتوَقَّع لتؤسّس " شكلاً " لم تتغيّاه الشاعرة ، بقدر ما صاغته " الأفكار " المتفجّرة ، مثل غرين البراكين السائلة الملتهبة ، لينتهي بك إلى أرض تبدو راسخة ، لكنها رجراجة لن تجد لنفسك مستقرّاً عليها . إنها زجاج مطحون تنعفه الشاعرةُ ليتّخذ شكل لوحة ريّانة .. ذلك أن ثيمات الحرب والخسارات والخواء والهزائم ، وربما العدميّة ، هي ما يتراءى ، بأكفانه ودمائه وغربته وخطاياه ، في تضاعيف القصائد ، بجرأة وتوتّر وفحولة ووعي .
غير أن تلك المفردات ، على سوداها وكآبتها ، ورغم نثارها الحارق بين الأسطر ، إلاّ أنها لم تذهب بالشاعرة إلى متاهة الضياع والعبثية ، وهذه مفارقة ، استطاعت الشاعرة معها أن تقدّم لنا مشهدية دامية مُنتَهَكَة متشظّية ..لكنها ، مع هذا ، بقيت مثل سيف البحر ، ثابتةً ، تعي مآلاتها ، كما تعرف خطواتُها طريقَ العبور، وإن كان شائكاً ، والوصول إلى المُنتهى الذي تراه .
إن أسماء عزايزة ، في " لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب " الصادر عن منشورات المتوسط ، وجاء في تسعين صفحة ، أثبتت أن الشاعر هو مَن يستطيع أن يذوّب حمولته المعرفية والثقافية ، ويمتصّ مليون زهرة وحشية ليستخرج رحيقَها الحارق ، ثم يقدّمها سائغة ساخنة موّارة ، هي نتاجه الخاص بامتياز ، مطهمة باشتعالاته ونبضه ونداءاته المذبوحة ، وشهيّة مثل الخبز الجمريّ ، ومخيفة مثل طوفان مفاجيء .
وأسماء ، في هذا الكتاب ، تنوء تحت القصف والركام ، وتتعرّض للعواصف السوداء ، وللرّعد الأرضي ، ولأصحاب الملامح الساخطة ، ولخذلان أبناء الحياة المُرتبِكين .. لهذا جاء أسلوبها جامحاً وصادماً وملتهباً ، وبمفردات تنبىء عن هذه النتوءات ، وتفحّ بالنار المُقطّرة . إضافة إلى أن خيطاً ممتداً ، يبرق في النصوص ، يشتعل بالتمرّد ، ولا يُقرّ بالتطامن والواقع المفروض الساقط والقبول المهزوم .
إن نصوص أسماء تترك خطوات الخوف على قلب القاريء ، وتطبع بصمات الوجع العميق على جدران روحه ، وتأخذه إلى أسئلة مُشرعة ، لا نهائية ، تتقاذقه ، ليجد نفسه على منصّة جديدة ، يشرف منها على هوّةِ واقعٍ يتفصّد دماً وغباراً وحسرات ممضّة .
ولعلّ منطوق النقد النمطي والسائد لا يصلح لتناول أو تلقّي هذه المجموعة ، التي جاءت نتاج تطواف ورؤى وتبصّر حذق ، وقراءات كاشفة .. لما يحيط بالشاعرة ، من خيبات وشجن وفجائع ! وعليه فإن الولوج إلى النصوص يستدعي أدوات جديدة ، لا أدّعي أنني أمتلكها ، لأن ما أكتبه ، هنا ، هو أقرب إلى النقد الانطباعي الذاتي المروري ، ولكنه نداء واجب ، لقرّاء الشاعرة من النخبة ، ليحذروا من تفكيك وإضاءة نصوصها بآليات " مُستعملة " أو مكرورة ، دون أن يُقاربوا النصوص بنظرية يتمّ تخليقها من أرضية النصوص ذاتها ، لاعتقادي أنّ كل نصّ ناضج هو الذي يؤثّث نظريته النقدية بالضرورة ، ويستعين أو يستأنس بما سبق من نظريات وأدبيات .
وأعترف بأنني خرجت ، بعد أن قرأت الكتاب ، بغير ما دخلت .. لقد خرجت ، وثمة قشعريرة وفزع ودهشة ، قد اعترتني ، وتركت وخزاتها وسحجاتها في نفسي .. كما وجدتني أكثر إيماناً برؤية وردة الأمل المضيئة ، تفوح وتغطّي كل ما تهدّم وتهاوى .
إنّ التناص في هذه المجموعة يتّخذ طريقة مُحفّزة ، تلاقحت مع مثيرات قادرة على البعث والاستجابة ، وأظهرت قدرة الشاعرة على أن تجعل ، من تلك العروق الذهبية التي أثارتها، جزءاً من النسيج الكّليّ ، دون أن تخسر حضورها ، أو تفقد إمكانية أن يتماهى ما هبّ عليها بما صدر عنها ، إلى حدّ يشهد للشاعرة ، بسعة المعرفة ، والتخارج والتداخل مع كل ما يفيض من أَلَقٍ ، ويسترعي انتباه الفؤاد . علاوة على أنها تجعل من تلك " البذرة " أو الإرهاصة شجرة ممرعة ، أو بناء مستقلّاً بذاته .
ويُحسب للشاعرة ، بأنها ، ورغم هذا التفلّت والدويّ والانكسارات والشروخ .. لم تقع في المباشرة أو الخطابية الفجّة ، وأبقتْ على ديباجة البوح الشعري ، الذي يبدو ناعماً ، لكنه يحرق الأصابع والجفون .
وإن هذا الكتاب يؤكد ، بلا أدنى شك ، بأن الشِعر أكبر من أشكاله ونظرياته وقرّائه ، وأن ثمة حساسيات تنبع من أرض الإبداع الفلسطينية ، تتعالى وتتكرّس ، وتثبت أن لا سقف يردّها ، أمام ينبوع الشِعر الحقيقي ، بهذه الحلّة الحداثية ، التي تجعلني ممتلئاً بالثقة التي تقول ؛ إن شِعرنا بألف خير ، وإن هذا التنوع في " القول " هو أساس إثراء المشهد والتجريب والخَلْق الساحر .
وشكراً يا أسماء .