الخميس: 28/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

أزمة حركة فتح : المؤتمر الوطني الافريقي نموذجا- بقلم محمد مشارقة لندن -

نشر بتاريخ: 23/02/2006 ( آخر تحديث: 23/02/2006 الساعة: 09:49 )
لم تكن نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطنية حدثا عابرا يمكن التعامل معه كقطوع مؤقت في المسيرة السياسية ، فالقراءة التفصيلية تشير الى ان ماجرى كان تحولا نوعيا وعميقا لا زالت مفاعيل ارتداداته جارية ولما توقفت آثاره بعد . ويخطيء من لا يزال يعتقد ان بامكان قوى منظمة التحرير وفي مقدمتها فتح استعادة زمام المبادرة والعودة الى الحكم بعدتها القديمة ، بعد ان وجه الشعب لها وعبر عملية انتخابية نزيهة حتى لا نقول ديمقراطية ضربة في الرأس لن تستفيق منها بالمكابرة والتبرير والبحث عن شماعات لتعليق الاخطاء عليها، ولا بالتمسك بآخر اوهام خشبة الخلاص على اهميتها، مؤسسة الر ئاسة ومنظمة التحرير، تلك الرؤى التي يؤمل منها ان تكون جسرا لعودة فتح ظافرة الى مقاعد الحكم، لان اشاعة هذه الاوهام والوصفات الساذجة من شانها اعفاء الجميع من الانخراط الجدي في عملية المراجعة العميقة والناقدة لحقبة كاملة من المسيرة الفلسطينية.

ان فوز حركة حماس بغالبية مقاعد المجلس التشريعي،فتح الباب واسعا لاعادة تشكيل الخارطة السياسية على اسس وقواعد جديدة تستند الى جملة من المتغيرات التي حصلت عالميا واقليميا ومحليا ،منها :تسلم تيار المحافظين الجدد مقاليد الادارة في الولايات المتحدة محملا بترسانة ايديولوحية دينية متطرفة ، استتبعت صعودا لتيارات الاسلام السياسي بتعبيراته المختلفة ، وترسخ مواقعة في الحياة السياسية ، والتحاق قطاعات واسعة بهذا التيار الصاعد من الفئات الوسطى المطحونة بفساد الدولة التسلطية والتطور الراسمالي المشوه ، فقد تمكن هذا التيار من ان يبني قواعده ويغرس جذوره في بنية ناقمة ومقهورة ومغيبة عن المشاركة، لتستفيق الانظمة الحاكمة ومعارضاتها على شبكة واسعة من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية تديرها الحركات الاسلامية وتغرف منها رصيدها الانتخابي وتعزز بها نفوذها وسط شرائح وفئات المجتمع كافة، بما فيها الفئات العاملة والمهمشة التي كانت مصدر قوة التيارات اليسارية في الخمسينات والستينات. وفي هذا الاطار استفاد التيار من المراجعات المتقدمة التي قامت بها بعض الحركات الاسلامية لتجربتها العملية في العقود الماضية، والتي تقول صراحة برفض استخدام العنف كوسيلة للوصول الى الحكم والقبول بنتائج صندوق الاقتراع وبمبدأ تداول السلطة سلما، واحترام الاطر الدستورية القائمة، على هذه الارضية ومنها يمكن الانطلاق في القول ان ما جرى فلسطينيا لم يكن حالة عابرة ومنفصلة عن سياقها التاريخي ، بل ذروة نهوض قوى جذرية تعتبر صعود حركة حماس الى سدة القيادة هو انتصار لمشروعها الدولي ، معززة بكل ما تحمله هذه البؤرة (فلسطين ) من مثقلات دينية عميقة .

فتح الازمة البنيوية

تميزت حركة فتح باعتبارها اطارا وطنيا مفتوحا تجنب ومنذ البداية اعتناق ايديولوحية او فكر سياسي وتنظيمي محدد، رغم ان المؤسسين جاؤا من خلفيات سياسية وفكرية مختلفة ، وشكلت السنوات العشر الاولى الذهبية من تاريخها، ردا مبدعا على الهزيمة العربية الاولى والثانية، واعطت املا وروحا جديدة للمناضلين الفلسطينيين والعرب، بامكانية النهوض والمقاومة .

رغم حالة الصدام التي أخذت شكل الاشبتاك المسلح مع بعض الانظمة العربية التي لم يرق لها استقلالية الفلسطينيين في اخذ زمام المبادرة بيدهم ، الا ان فتح لم تراجع تجربتها السياسية والتنظيمية وظلت في بنيتها الداخلية تقوم على خليط من المنطلقات السياسية والاخلاقية والنضالية البسيطة تدور حول فكرة مركزية هي النضال من اجل التحرير، التصقت قيادتها بقواعدها وعاشت همومها ومعاناتها.

شكلت مرحلة منتصف السبعينات منعطفا هاما في تاريخ حركة فتح، فقد تدفق الريع النفطي بعد الثورة الهائلة في الاسعار وبات مصدرا اساسيا لتمويلها ، وتمويل الحرب الاهلية اللبنانية التي انخرطت فيها او لمواجهة صعود تيارات اليسار عربيا وعالميا، فقد استفادت فتح من الفورة النفطية بتوسع هائل في قاعدتها التنظيمية والادارية والعسكرية والاعلامية، ساعدها في الاطباق على خناق منظمة التحرير ومؤسساتها ومكنها من بناء شبه دولة في المنفى قاعدتها جيش من الدبلوماسيين والاداريين والاعلاميين، وطفى على سطح الحركة نخب جديدة ارتقت الى موقع بين منزلتين الثورة والدولة، حملت معها قيم وسلوكيات هجينة تجمع بين سمات رجال الاعمال والثوار، لكن المعايير منذ ذلك الوقت اختلفت، فقد ذوت قيم الطهارة الثورية والنزاهة والزهد والتواضع لصالح البذخ والفساد المالي والاخلاقي والمحسوبية والفهلوة وشراء الذمم، وتوسعت حالة التذمر والاحباط لدى قطاعات واسعة في الحركة لم ينقذها سوى ارئيل شارون بغزو لبنان واخراج قوات منظمة التحرير وتشتيتها.

وتدريجيا بات الزعيم عرفات يمسك بمعظم الخيوط الادارية والمالية منها على وجه الخصوص، واستبدل التنظيم واليات عمله بهرمية عشائرية مفاتيحها عدد من الابوات الذين ارتبطوا بدورهم بشبكة من الانصار والمريدين على اسس غير سياسية ، استندت في غالبيتها على المناطقية والجهوية والقرابة ، ومع الانشقاق الشهير الذي قاده ابوخالد العملة وابوموسى وسميح كويك وابوصالح في 1983 وكذا اغتيال ماجد ابوشرار في روما، اسدل الستار على ما تبقى من استقطابات على اسس سياسية وفكرية .

بانتقال مركز القيادة الفلسطينية الى تونس، واستشهاد القادة المؤسسين ابوجهاد وابواياد تمكن ياسر عرفات من الامساك وبصورة مطلقة بكامل الصلاحيات، وجاء مؤتمرالحركة الخامس ليرسم بالخاتم الرسمي حالة الخراب وانقلاب المفاهيم والقيم (التي وجدت تعبيرها الواضح في تشكيلة المجلس الثوري واللجنة المركزية)وعلى صعيد العمل في الارض المحتلة التي كانت تدعى بالقطاع الغربي، زحفت موازين القوى الجديدة على هذا الجهاز بعد استشهاد قائده خليل الوزير ابوجهاد، وشهد عملية تصفية منظمة، حيث ابعدت الكوادر الرئيسية عن موقع القرار والعمل الميداني، وجرى اعتماد الاتصال الرأسي والتمويل المباشر بعيدا عن اللجان المناطقية، وهكذا وعلى قاعدة الاستزلام والولاء المرتبط بالمصالح الشخصية، تصدر المشهد السياسي في الارض المحتلة رموز بات ولاؤها المباشر لمموليها بعيدا عن قاعدتها او وزنها التنظيمي او الاعتبارات النضالية المتعارف عليها.

مع عودة القيادة من منفاها التونسي الى الداخل، انتقل ارث الادارة الفتحاوية وتقاليدها وقيمها الى الداخل، وبات الابوات والمفاتيح التنظيمية هم الماكينة التي جرى الاعتماد عليها لاستقطاب الاشخاص الذين ارتبطوا بالخيوط التونسية ليكونوا قناتهم الى القاعدة الشعبية، ولتنظيم الولاءات والنفوذ للقادمين الجدد، وقد كوفئ هؤلاء بمنحهم الامتيازات الوظيفية في جهاز السلطة، وهكذا رحل المناضلون القدامى/الموظفون الجدد من الفئات العليا والوسيطة في الادارة الحكومية، الى العاصمتين الاداريتين غزة ورام الله تاركين خلفهم زملاءهم في النضال وعائلاتهم في مخيمات وقرى وبلدات البؤس والفقر والحرمان، لكن هذه الفئة صارت محط حسد وانتقاد محيطهم الاجتماعي السابق . ومع تعطل مسيرة التسوية وانحطاط مستويات المعيشة وزيادة معدلات البطالة، والاغلاقات الاسرائيلية والحصارالدائم، كان السخط والاحباط الشعبي يوجه نحو رفاق الامس .

شخص فريد واحد فقط كان بامكانه ان يدير هذه الشبكة من المصالح والادوات هو ياسر عرفات، الذي تمكن عبر شبكته القديمة والجديدة من الاستمرار في ضبط ايقاع الشارع وامتصاص غضبه وردات فعله على ممارسات ازلامه، عبر نظام من الهبات والاعطيات الشهرية التي يوزعها من خلال الوكلاء وفق نظام " يصرف له "، وترتفع مكانه المندوب في اوساط الجماعة بحسب قدرته على تامين تواقيع الصرف المالي والخدمات، ولم يكن هذا النظام ليقوى من النفوذ التنظيمي للحركة، بل لتعزيز المكانة الشخصية لهؤلاء الوكلاء .

فقط ياسر عرفات كان بامكانه ضبط الايقاع في السلطة والمنظمة وفتح بكفاءة عالية بل ونادرة. فقد وزع الادوار والاموال والمواقع وخبر جيدا اثقال رجاله، وامسك بمقادير النظام الذي فصل على مقاسه تماما، وهكذا ارتبط التقدم والتطور، الصمود والمقاومة، المساومة والتراجع، الفساد والمحاسبة، كل ذلك باسمه وبتوقيعه، ولهذا لم يكن مستغربا ان يصل الجميع داخليا وخارجيا الى خلاصة مرة، أن لا امل في التغيير ما دام الرئيس عرفات على قيد الحياة، وساهم الموقف الاسرائيلي والامريكي الذي انقلب على عملية السلام في ادامة الجمود والعطالة في الحياة الفلسطينية، خاصة وان عرفات ربط غير مرة اجراء الاصلاحات باستكمال فرض السيادة على باقي الارض الفلسطينية التي حاصرها الاحتلال بالحواجز والاستيطان لتتحول الى معازل عنصرية حقيقية، فاودعت المناطق الفلسطينية في حالة من الترقب والانتظار، انتظار الظروف المحيطة او تدخل الهي كما كان يجيب عدد كبير من قادة السلطة وفتح على سؤال الاصلاح.

تدخل القدر فعلا ورحل أو قتل عرفات الزعيم التاريخي والمادة الصمغية التي حافظت على لحمة الوضع الداخلي برمته، ومع رحيله انهارت البنى الفلسطينية جميعا من فتح الى منظمة التحرير والسلطة .

والسؤال اليوم: هل يمكن اعادة عقارب الساعة الى الوراء، في تقديري ان الامر ولى الى غير رجعة، فالحديث يجري عن وحدة فتح، في غياب الموحد او ترميم آليات عمل لا وجود لها اصلا، فالحركة لم تكن يوما ومنذ عقود ثلاثة تنظيما حقيقيا ، والمراهنة على تحويلها الى تنظيم عصري يحتكم الى المؤسسات والتعددية السياسية والفكرية ضرب من الامنيات الطيبة ، بالنظر الى ان حجم الضغوطات والتدخلات الخارجية والاغداق المالي على مراكز القوى داخلها سيزداد مع تشكيل حماس للحكومة .

كما ان اعادة بناء مؤسسة فتح على اسس الواقعية والحداثة يعيدها الى الواجهة يحتاج الى فترة اختبار طويلة فالشعوب لا تنتقل في خياراتها بين ليلة وضحاها، كما ان على الناس ان يلمسوا تغييرا مبدعا وجديا حتى يعيدوا النظر بموقفهم من الاسلاميين، ولا بد من متغير دولي واقليمي يسهل على فتح استعادة دورها وبرنامجها وشعاراتها وهو ما لا يبدو في الافق القريب ، مع ادارة بوش والحكومة الاسرائيلية القادمة.
فقد تم استبدال كل اطر عملية السلام وفق الاتفاقات والقرارات الدولية من اتفاقات اوسلو وواشنطن والقاهرة ومبادرات ميتشل وتينيت بخارطة الطريق المثقلة باربعة عشر لغما وضعها شارون بموافقة امريكية.

نحو صيغة مانديلا في المؤتمر الوطني :

لا حاجة بنا الى القول ان الوضع الذي آلت اليه فتح ينطبق على فصائل منظمة التحرير جميعا ، فآليات العمل الداخلية التي ضبطها ياسرعرفات لا يمكن استحضارها مجددا بعد رحيله، ولم يتوفر الوقت الكافي لابداع اليات جديدة تؤطر التعدد والتنوع والخلاف، ولهذا يبدو ان اقل الاضرار الوطنية والتنظيمية هي في المشاركة في حكومة حماس، لتأمين عبور النفق الانتقالي الى صيغة جديدة وكذا تجاوز مخاطر الجمود في العملية السياسية.
أما الرهان على استعادة مكانة المنظمة وبعث الحياة فيها فهو ضرب اخر من الاوهام التي يتمسك بها البعض داخل فتح واليسار كخشبة خلاص، فالمنظمة شاخت منذ زمن، والقوى المشكلة لها لم يعد لبعضها وجود على الارض وانفضح ضعفها في الانتخابات المحلية والتشريعية الاخيرة، عدا عن ان امتدادات المنظمة في المنافي والشتات تحولت في العقد الاخير الى هياكل وهمية حلت مكانها دينامية تديرها حماس بشبكة معقدة من المؤسسات المدعومة من تيار الاخوان المسلمين الدولي.

ولا يخفى على أحد ان اللجوء الى اي شكل ديمقراطي حقيقي في مؤسسات المنظمة واجراء الانتخابات حيثما توفر ذلك في المنافي يفضي واقعيا الى نتائج محسومة سلفا لصالح حماس في ظل غياب فتح وحلفائها عن الساحات الخارجية وتوقفها عن العمل في الاردن وسوريا.

ولهذا نقول ،ان لا جدوى من النفخ في قربة مثقوبة ولا استعجال احياء منظمة التحرير في الظروف الحالية قبل تبلور الحالة الوطنية الجديدة ، لان هذا الاستعجال يعني ببساطة تكريس حالة الخلل البنيوي التي اصابت العمل الوطني ولعقود قادمة .

ان فتح مدعوة اليوم اذا ارادت الاستمرار في الحياة السياسية الى الانخراط في ورشة عمل حقيقية صريحة وشفافة من اجل تقييم جدي للمسيرة الماضية بمشاركة كل الوطنيين الفلسطنيين من اجل ابداع افكار جديدة تطلق الحيوية والدينامية بهدف الخروج من الازمة ، تحرك ذو شقين: الاول داخلي للوصول الى توافقات الحد الادنى من صيغة عصرية تحتمل القبول بالتعددية والمنابر السياسية في الاطار الواحد وآليات تنظيمية تؤمن حماية هذه التعددية وتنوع اشكال النضال، اما الشق الاخر فله صلة بالمسؤولية الوطنية عن مجموع الحركة الفلسطينية بتعبيراتها المختلفة اليسارية والقومية والدينية المستنيرة، التي دخلت هي الاخرى في مرحلة التشرذم والموات، مطلوب من فتح الخروج الى الحلفاء من اجل تجاوز الخلل الذاتي ، والاقتراح هنا صيغة ائتلاف عريضة تستمر لعدة سنوات ، بما يقترب الى حد بعيد من صيغة المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة نلسون مانديلا، اطار جبهوي يجمع بين المتدينين والعلمانيين والوطنيين القوميين يقوم على رؤية جديدة يقنع اعضاءه وجمهوره والشعب بان شيئا قد تغير.

ان المرحلة في جوهرها لا زالت تحمل سمات ومهمات التحرر من الاحتلال ذو الابعاد الاجتماعية، واذا ما توفرت الارادة السياسية والاعتراف بحجم الخراب والمخاطر فان فتح يمكنها تقديم البدائل وتجاوز الازمة بما يعيد تشكيل الحركة الوطنية على اسس جديدة، بدائل تنقذها من صراعات مراكز القوى المدمرة وتنقذ الفصائل المتحالفة معها من تشرذمها وضعفها، عل ذلك يعجل في اخراج الوضع الفلسطيني من ازمته ويوقف مسلسل التصفية الزاحف سريعا على كامل المشروع الوطني. ان سقوط السلطة بقيادة حماس لن يكون في مصلحة فتح ولا فصائل منظمة التحرير، لانها لم تعد تشكل بديلا مقنعا. والبديل الماثل للعيان هو عصابات مسلحة في المدن تشكل اداراتها المحلية وتفرض الامن والنظام على الطريقة الصومالية وهو بالضبط ما تريده اسرائيل.