الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الإنسانِيّةُ المُوحِشة

نشر بتاريخ: 12/11/2020 ( آخر تحديث: 12/11/2020 الساعة: 20:28 )
الإنسانِيّةُ المُوحِشة

الكاتب: الطالبة ماريا عودة

في الساعةِ الخامسة والنصفْ، مِنْ فجرِ يومِ الإثنين مِنْ شهرِ آب، يستيقظُ صالح على صوتِ أذان الفجر لأداء صلاته، صالح ابن السادسة عشرة عاماً الذي يحملُ من اسمه الكثير، صاحبُ الوجه الطفوليّ، تبدأُ ذاكرتَهُ باستعادة شريط اللحظاتِ المُرّعبة التي مرَّ بها بين ليلةٍ وضُحاها، لحظاتٍ تدور في رأسه كشريطٍ سينمائيّ لأحدِ أفلام الرُعب، فيسترجعُ فاجعته حينَ ذهبَ لشراءِ ربطةِ خبز قادته إلى قدرٍ مظلم.

فقبل أيامٍ حينَ قصدَ صالح الشارع في وضحِ النهار لشراءِ الخُبز لم يعلم أنَّ الثمنَ سيكون غالياً لهذه الدّرجة، في طريقِ العودةِ من المخبز يلمحُ صالح المتربّصين به، الّذينَ يعرفهم، فهُم أقاربُ الشخص الذي قتله والد صالح دفاعاً عن نفسه، يهرولُ صاعداً إلى حافلةٍ صغيرة يظلِّلُ شبابيكها اللّونَ الأسود، ظنّها المُنجية له، فكانت المقصلة! حيث تجمّعت وحوشٌ بشريةٌ حوله، " ولا صوتْ وإلاّ بتموت" صرخَ به أحدهم، اقتادوه إلى بيتٍ بعيد، يملأه البرّدُ القارسُ والصمتُ الموحش، دفعوهُ أرضاً، تناوبوا على ضربهِ كأنه أشبه بدميةٍ فاقدة للآدميّة بين يديهم.

واستمر اقتصاصُ الثأر من فتى صغير ليسَ لهُ فيه يدٌ ولا ذنبْ، تنهالُ اللّكمات والضربات على جسدهِ بينما يعلو صوتُ صالح فوقها قائلاً: "اللهُ أكبر"، دقائقٌ مرّت حاول صالح فيها استجماعَ نفسه، ظنّاً منه أنَّ المأساة قَدْ انتهت، ينتفضُ جسده وهو يستذكرُ كيف بدأت المُهمةُ الوحشيّة التي لمْ تستغرقْ سوى بضعةِ دقائق من حياتهم والتي ستحرِمُ صالح مُتعةَ الحياةِ لسنواتْ. كجزّارين يقطّعون لحمَ ذبائِحهم شرعوا بتقطيعِ أطرافه، وحتّى بترِ يديه وصراخَ طفولته العاجزة لم يشفِ غليلهم من والدِ صالح الذي قتل خالهم، فصعدت سكاكين الموت إلى وجههِ لتحرمهُ متعةَ البصر بعدما فقأوا عينيه.

وحين انتهت مُهمتهم الوحشيّة، حانَ وقتُ التخلّص من ضحيّة الشرّ والثأر الجاهل في وسطِ ضحكٍ وسخرية يقول أحدهم "دشروه ينزف تيموت" والآخر يعلّق "لا، بكفّيه هيك، بنرميه عطرف الطريق" دفعوهُ بأقدامهم يدحرجوه حتّى وصلَ الحافلة، واقتادوه إلى الطريق العام، ملقيين به على رصيف الشارع، وهناك، ينزف صالح وقد اصطبغَ الشارع بلونِ دمه، أصواتٌ تحيط به وتتردّد كالصدى في أُذنه " مين هالولد ، يا حرام ، مين عامل فيه هيك " ، دقائقٌ عاشَ فيها صالح في صراعٍ مع الأسى والألمِ والدهشة، حتّى سمِعَ صوتَ سيارة الإسعاف تقتربُ رويداً رويداً وهو يشعر بثقلِ الدقائق وبطء الخطوات التي تتّجه نحوَه، يتعالى صوتُ أنفاسه بينما تعلو أصواتُ المسعفينَ حوله " يلا شوي شوي عليه، ما تخاف راح تكون منيح " ، تهرعُ الطواقمُ الطّبية لحظةَ دخوله المشفى لإسعافه، تولول أمه بحرقةٍ على ولدها "ريتني متت ولا ودّيته يجيب خبز" ، بينما ينتشرُ الخبرُ في الشّارع الأردنيّ ويتعالى صوتُ الغضبِ من المواطنين ، فيما بقيت روح صالح البريئة متعذبةً في آلامها تحاول التشّافي بإيمانها الكبير بعدالة المولى والقانون الذي ألقى القبضَ على الفاعلين وحاكمهم، وامتدّت حملةُ الإعتقالاتِ لكلِّ عصابات الشارع بعدها بأيّام، وهذا ما تمنّاه كلّ المتعاطفينَ مع صالح والمتكفلين بقضيّته وعلاجِه كيْ ينعمَ هو وغيره بالأمانِ في وطَنِه.