الأربعاء: 24/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

وحال بينهما الموج...

نشر بتاريخ: 09/12/2020 ( آخر تحديث: 09/12/2020 الساعة: 18:14 )
وحال بينهما الموج...

بقلم: تغريد أبو رميس

منذ صغره كان يرى مشاكل أمه وأبيه أمام عينيه، كان لا يستطيع أن يعبر عن انزعاجه أو تضايقه من هذه المشاكل والصراخات التي تدوي بالقرب من أذنه باستمرار، عندما يصرخ أبوه على أمه كان يجلس في زاوية من زوايا منزله الضيق بالرغم من رحابته مغمضاً عينيه وواضعاً يديه على أذنيه محاولاً حجب الصراخ عنهما، وكان ينشد أنشودة من الأناشيد التي تعلمها من أمه المسكينة حتى يخفف حدة الموقف الذي حالما يتصاعد ليصل مرحلة الضرب، وينتهي بحضن باكٍ بين الأم وأولادها ومغادرة الزوج المنزل، ليتكرر هذا الموقف كثيراً حتى ظن أنه لن ينتهي أبداً.

كان صالح يعيش مع والديه وإخوته في منزلهم الريفي البسيط، لم يعرف صالح وأخوته أبداً سبب هذه النزاعات المستمرة بين والديهم، ولكنهم يرون أن أمهم مظلومة دائماً، كانت تفعل كل ما يريده منها زوجها، ولكنه في كل مرة يضربها، أما الأم فلم تظهر ضعفها أمام أولادها ولو لمرة واحدة، بل كانت تهدئ من روعهم قائلة: "معلش يما ما تخافوا، هو بدو يقتلني يعني؟ هو بعرف شو بسوي"، لم تعجب هذه الكلمات صالحاً في كل مرة، بل كان في نفسه أن يضرب أباه ضرباً مبرحاً عن كل مرة ضرب فيها أمه، أجل لقد نمّى ذلك الشعور في فكره دائماً.

أما عن صالح خارج منزله، فقد كان في مرحلته الأساسية طالباً مجتهداً، خلوقاً ومؤدباً مع معلميه ورفاقه، فقد سمع نصائح أمه دائماً، واجتهد لينقذها وأخوته عندما يكبر، لكن سرعان ما أهملته أمه بعدما صار في الحادية عشرة من عمره، ربما لأنها اهتمت بإخوته الصغار، ومع هذا الإهمال من الأم المنشغلة بنفسها وصغارها، والأب المنشغل بجمع النقود وتركيمها، ذهب صالح ليجد من يشغله هو أيضاً، ويخرجه من ضعفه وسكوته الذي كان يعيره به زملائه دائماً، أحمد ورفاقه.

كان أحمد ورفاقه المثل الأعلى لرفاق السوء، فقد كانوا عصابة من أطفال لا يتجاوز عمرهم الحادية عشرة، كانوا يمثلون رعباً لأقرانهم، ولا يعيرهم أي أحد من الكبار اهتماماً؛ لأنهم "أطفال صغار"، ولطالما حلم صالحاً أن ينضم لهذه العصابة؛ حتى يتغلب على نفسه ويصبح قوياً يهابه الجميع، وتحقق حلمه آنذاك وانضم لهم، وانقلبت حياته رأساً على عقب من ذلك اليوم، فبدأ بالتدخين وإهمال دروسه، والعراك مع زملائه في الفصل، لقد استدعى المدير أباه مرات عديدة، لكنه لم يأت في أي منها فهو مشغول، الأمر الذي شجع صالحاً وزاد الطين بلة، فكر بأن المدرسة لم تعد تفيده فقرر مغادرتها والعمل لكسب النقود، فقد كان محروماً من أبسط احتياجاته ومصروفه، حاول ترك المدرسة مرات عديدة باءت بالفشل، بضغط من أمه ومعلميه، حيث تحدث معه المرشد التربوي في المدرسة وأقنعه بالتعليم وأهميته ووعده بمساعدته والاهتمام به، فعدل صالح عن الفكرة، وبقي في مدرسته لكنه لم يكن كعادته فقد استمر في إهمال دروسه و التعارك مع زملائه ورفاقه طيلة عامين كاملين.

عامان آخران من حياة صالح أمضاهما في المشاكل ووالده لا يلقي له بالاً، وبعدهما ترك مدرسته في الرابعة عشر من عمره واتجه للعمل في مصنع لإنتاج مواد البناء،

وكان يخرج من العمل ما يكفي للتدخين وإمضاء الوقت في المقاهي لمنتصف الليل، وتمكن من شراء سيارة غير قانونية بحجة يسرالحال ولأنه يحتاجها في الذهاب إلى العمل، هذا ما أقنع به والده غير المبالي ليتمكن من شراءها، ولكنه لم يكن يعرف أنها ستكون مصيبته ووالده حين يدهس أحد الأطفال المارين في الشارع، الأمر الذي كلف والده أموالاً كثيرة لم يكن قادراً على تسديدها بنفس الحجة التي اشترى بها ولده السيارة: يسر حاله، مما اضطر أقاربه على المشاركة في الدفع لإنقاذ صالح وأبيه من هذا الخطب، ولكن صالحاً لم يقف عند حده مرة أخرى، حتى خسر أباه ونفسه وعمله، فقد فقأ عين أحد زملائه في العمل في مشكلة بسيطة كانت قد حصلت بينهما، أين الشرطة من الموضوع؟! يبدو أن الأمر انتهى مجدداً بفنجان قهوة وعملة.

"إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح"، هذا ما قاله أقارب أبي صالح له، إن صالحاً ليس بصالح، فجد له حلاً قبل أن يورط نفسه وإيانا في مشاكل أكبر، يقول الأب: "لم أترك وسيلة لإرشاده، وهدايته إلى طريق الصواب، كنت في كل مرة أسامحه وأغفر له فيعود، كان عنيداً جداً..."، أما صالحاً فيقول: " لم يترك لي وسيلة لأعيش حياتي بحرية، كان كل ما يفعله هو الضرب، والضرب، لا شيء غير الضرب..."، لم يتراجع صالح حتى أنضح إناء أباه وأفاض غيظه، فقرر أن يتبرأ من فلذة كبده ويقطع صلته فيه، ففعل، وأصدر بياناً رسمياً كانت كلماته تصدح بالقسوة والظلم: "أنا الموقع أدناه... أعلن براءتي عن صالح...، ولا تربطني به أي علاقة من قريب أو بعيد، ولا أتحمل أي مسؤولية تحدث به مهما كانت، ولن أتعرف على من يتعامل معه خيراً كان أو شر"، وهكذا حال بين صالح وأبيه موج الفتنة الذي أغرق صالحاً وما زاده إلا عصياناً وتمسكاً بما شب عليه من خصال سيئة.

لم يكن هذا حلاً للمشكلة…

لم يكن صالحاً المسؤول الوحيد عن كل ما حدث...