الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

الغريبة المظلومة

نشر بتاريخ: 30/08/2021 ( آخر تحديث: 30/08/2021 الساعة: 17:36 )
الغريبة المظلومة

الكاتب: السفير منجد صالح

كانت تنتاب "صُبحيّة" المرأة الثلاثينيّة، الغريبة التي تزوّجت خارج قريتها، نوبات وصرعات جنون من وقت لآخر، وأحيانا تستمرّ على مدى أيّام مُتتالية.

لقد مرّ عليها عشرة أعوام مُرّة بطعم العلّقم، منذ زواجها وانجابها ثلاثة أولاد وبنت.

خلال نوبات صرع جنونها الطارئة، كانت تذرع طرقات البلدة الترابيّة طولا وعرضا، تلفّ وتدور وتدور وتلفّ في طرقات القرية، التي أصبحت موطنها الجديد بعيدا عن أهلها وعائلتها الأصلية.

منكوشة الشعر متّسخة الثوب مُصطكّة الأسنان، تُخرج من بينها، من فمها، زبدٌ يسيل على ذقنها ويترقرق على رقبتها المُتعرّقة المُغبرّة، بفعل مكوثها ولفّها ودورانها تحت أشعة الشمس اللاهبة، تلسعها وتمتزج اشعاعاتها الهابطة عليها مع "نوافير" الغبار المتصاعدة عليها بسبب جرّها اقدامها، وذرعها للطرقات والانهج والأزقّة الترابية، على غير هدى.

نساء القرية كُنّ يُشفقن عليها ويٌحاولن أقصى جهودهن تهدئة ثورة غضبها وشراستها اللاطوعية اللارادية، فقد تعوّدن على نوباتها، وخاصة أنّها، في عزّ ثورتها "الجنونيّة"، لا تترك منزلا ولا بيتا في طريقها إلا وتقرع بابه أو تدخل فناءه.

أصبحت حديث دواوين القرية وتحلّقات نسائها، لكن الجميع، في الحقيقة والواقع، يتعاطف معها:

"يا حرام ما زالت شابة، رُبما لم تتجاوز الثلاثين عاما من عُمرها بعد، بعيدة عن أهلها!!!".

أخذوها مرارا وتكرارا وداروا بها على أكثر من طبيب ومستشفى، لكن لم يعرف الأطباء سرّ نوباتها، وجلّ ما فعلوه لها أنّهم أثقلوها بالأدوية والعقاقير المُهدّئة.

ومن وقت لآخر "يستضيفونها" عدة أيام في مستشفى "العصفورية" في مدينة بيت لحم، حتى تهدأ وترجع إلى طبيعتها، وكأن شيئا لم يكن.

في يوم من الأيّام، كانت الشمس تتلألأ في كبد السماء، ودرجة الحرارة تنوف عن 39 درجة مئويّة، يوم لاهب "تُسلق" فيه البيضة تحت أشعة الشمس في العراء.

معظم سكّان القرية كانوا قد هجروا الشوارع ويأوون، رغما عنهم، في بيوتهم، للاتقاء من هذا القيظ اللاهب.

كانت "صُبحية" في ذروة إحدى نوباتها، تذرع طرقات القرية المُغبرّة طولا وعرضا، وهي في حالة يُرثى لها، بل هي في حالة من أسوأ حالاتها.

في قمّة نوبتها هذه، التقتها سيّدة خمسينيّة مُجرّبة، معروف عنها اللطافة والحنان ودمائة الخُلق.

أخذتها الحاجّة المُجرّبة اللطيفة إلى بيتها. لاطفتها وأطعمتها وأسقتها ماء باردا وهدّأت من روعها بلمساتٍ وكلماتٍ حانية.

وبدّلت لها ثوبها المُتّسخ بآخر زاهي وجميل.

استمرّت "تأخذ وتعطي معها" في الكلام بحنان ومحبّة ورويّة، فهدأت "صُبحيّة" وتلاشى عنها كربها شيئا فشيئا، وخفّ اصطكاك أسنانها وهمدت حركات يديها العصبيّة وانتظمت وتيرة أنفاسها، وبدا وكأنها، بقدرة قادر، تعود إلى حالتها الطبيعيّة الهادئة.

انفتح قمقم "صُبحيّة" المُستتر، مُحكم الإغلاق، وأسّرت للحاجّة:

"أنها لم تعد تُطيق زوجها السبعيني النحيل، "الشبق النزق"، لأنّه يُريدها في السرير، جاهزة تحت الطلب، أربعا وعشرين ساعة!!!".

كاتب ودبلوماسي فلسطيني