الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

"جمعة مشمشية" لأحمد إغبارية طالت قليلا

نشر بتاريخ: 10/06/2023 ( آخر تحديث: 10/06/2023 الساعة: 18:52 )
"جمعة مشمشية" لأحمد إغبارية طالت قليلا

الكاتب: تحسين يقين

ما بين الزمن في "جمعة" التي تعني أسبوعا، وما بين المستوى الصوتي في تزاوج الميم والشين، في "مشمش"، بما تتضمنه الدلالة من بصر وملمس ورائحة وطعم، وما يحتمل من دلالات اجتماعية من ثقافة الزراعة، بشقها التقريري بالمعنى الظاهر والمعروف، المتعلق بنضوج هذه الفاكهة وانتهاء موسمها سريعا، بما يستدعي الرعاية والحماية، وبشقها النقدي بما يعني وصف من يستغلون الظروف لتحقيق مصالح اقتصادية.
بالمضمون الأخير أقبلت على قراءة النص، لأجد نفسي في سياق سردي مغلف بحنين الوصف، برافعة لغوية جمالية تصل حدّ الشعر، كانت قادرة على إعادتنا الى أماكن الثمار المشتهاة وعلى رأسها المشمش. وزاد من التشوق ربط الأماكن ومواسم ثمار المشمش والتين، بوصف دقيق لأصحاب الأشجار المثمرة، بالعادات التي كانت سائدة، والتي ربطها الكاتب بالبنية السردية لأزمان الرواية المتواكبة، مركز على فترة الستينيات والسبعينيات، والتي سلقت فترة التحولات على القرية العربية.
وقد اختار الكاتب الإيحاء بالتحولات، بشكل خاص إثر الإفراج عن طارق، والخروج من السجن، الى المجتمع مرة أخرى، حيث يفاجأ بالتغيرات التي أثرت على الفضاء الفيزيقي، والفضاء الإنساني.
وقد مهّد الكاتب لذلك من خلال كاميرا دقيقة الزوم، لا تدل فقط على خبرة الكاتب بهذه الأمكنة فقط، بل كشفت لي أن الكاتب كان يصف بشكل دقيق ما عاد لرؤيته فعلا، بمعنى ان الوصف قادم من بصر حديث وليس من التذكر فقط.
ويظهر أن الكاتب منسجم مع شخصية الرواية الأساسية طارق، حيث نرى الكاميرا البصرية والنفسية والفكرية متتبعة بدقة ومحبة لكل من تفاصيل الطبيعة والأثار أيضا.
وهنا فقد نقدم الحديث عن اللغة كرافعة وحاضنة مهمة جدا لما نتناوله؛ فاللغة تصوير مدهش أدبيا رسم كل هذه الفضاءات، حتى لكأن الرواية قد تركزت في هذا الوصف. وهو وصف مكثف أيضا لا يترك للقارئ مجالات لتخيلات جديدة. وفوق ذلك (وهذا المهم)، فقد عمد الكاتب هنا الى سحر القارئ، بما كان يصف الأمس بفقرات شعرية، من خلال الجمل الاسمية المتتابعة، التي تذكرنا بشكل خاص بشعر محمود درويش. وليس هذا فحسب، بل استخدم اللغة رمزيا للحديث عن البقرتين اللتين كانتا يلجآن الى الخربة في ظل زهدهما بما هو موجود! فيما انتقلت رمزية الماء الى بعث جديد قادم سيعيد الحياة هنا مرة أخرى بعد أن كاد نبض الحياة يجف في ظل التحولات الجديدة التي انسجمت مع ثقافة الاستهلاك والتسليع.
تحولات
قبل الدخول الى التحولات، والتي تعني التغيرات الاجتماعية وما يرتبط بها من تغيرات على المكان عمرانيا، فقد وضعنا الكاتب في حال مقارنة، بين أمس واليوم؛ متناولا عناصر من المنظومة العامة والنفسية، والتي جاءت من الأحداث نفسها لا من التكلف، وكان ذلك من خلال أسلوب شفاف يقوم على الإيحاء، وهذا أحد أهم عناصر القوة هنا في هذه الرواية.
لقد صور لنا الكاتب حياة فطرية حميمية عن حياة القرويين، بدءا بالمسجد وما يعني من تدين عادي روحي جميل غير مصنوع، وحنان "المجبر" الذي عالج يد طارق، ومشاعر الحب النقية بينه وبين سلوى، وما كان يحبه الأطفال متأثرين بالتلفزيون، كذلك المعايشة بين غبيشي صديق طارق وخروفه سعسع، وتصوير تعلق الناس بالقزوز (الكوكاكولا)، والمواقف والأوصاف الكوميدية التي نثرها الكاتب في الرواية. (حمدان وهنية رمزان للحميمية الباقية الى حين)
لكن هذا الواقع لم يكن كذلك بشكل كامل، حيث عانى الطلبة من عنف معلم ومعلمة (اختبار الاسم الرمزي لها كونها دائمة التهديد بالامتحان).
بعد قضاء 15 عاما في السجن بسبب تهمة ملفقة، يعود طارق الى البلد، فيفاجأ.
"ما معنى أن تعود إلى بيت الطفولة فتجد أغرابًا يقيمون فيه؟ لن تستعيد تجاربك فيه. لن يكون هو هو، سيكون شيئًا آخر".
وتحوّلات أخرى في بُعْد الممارسة الدينيّة من الروحانيّة إلى الطقسيّة...
لقد صور لنا الكاتب حياة جديدة غير حميمية عن حياة أهل البلدة المشوهة التي تدعى بمدينة، ففي هذا الواقع تتغير الممارسات الدينية الروحية وتصبح طقوسا شكلانية، بل حتى صوت الأذان والمعمار لم يعد كذلك.
ركز الروائي هنا على الشكل العمراني الجديد، وهو شكل فوضوي يعكس فوضى السلوك والشعور، حيث لم تعد هوية المكان منسجمة، بما جدّ من أبنية عشوائية، وأعمدة وأسلاك متشابكة. لقد دخلت هويات (جمع هوية) جديدة جمعت الماضي الجميل بالحاضر المضاف الى القديم، تغير الاحتفاء بالشجر الذي كانت له قدسية، من خلال مراعاة مكانها خلال فتح الطرقات.
لقد ظهرت سطوة المكان والأزمنة بشكل واضح وهو يعود الى بلدته، حيث تداعت الى ذهنه الحوادث التي مرت من هنا منذ العهد التركي. وقد وفق الكاتب في هذه المقارنة المادية والنفسية معا. كذلك في تصوير خربة الغطسى.
لقد ظهرت التحولات التي حدثت في غير مكان في عالمنا العربي والعالم، أما التحولات إثر الكولينيالية، فلم تكن واضحة، حيث اقتصرت على تصوير المتدينين اليهود وأصوات الرصاص والطوافة-طائرة الهيلوكبتر التي تهبط الى علو منخفض. أما السجن فقد تم وصفه بشكل محايد، لولا طلب طارق بأن يسجن مع السجناء الأمنيين. كان من الممكن تضمين النص تحولات ثقافية واجتماعية نتجت بسبب الاحتلال الذي حدث عام 1948.
لربما يمكن اعتبار رمزية تهريب الآثار من خلال "عرصان" كإيحاء على سلب الوطن، وذلك من خلال إيحاء نقدي للذات, (ثم دلالة في الاسم عرصان).

وأخيرا، حتى لا ننشغل كثير في جدلية هوية النص، أكان منتميا للرواية أو السيرة، كما وصفها الكاتب "سيرة ذاتية متخيلة"، فإن هناك ما يمنحها صفة السرد الروائي؛ فالتحولات في العمل السردي تعني الاقتراب من الرواية، لكن ذلك لم يذهب الى المدى الذي يلائم عالم الرواية. هي سردية روائية تطل منها سير ذاتية متعددة.
لعلنا نعود الى ما ابتدأنا من انطباع:
ونقصد دلالات "الجمعة المشمشية"؛ لقد انسجم الصوت المهموس في "مشمشية"، مع الإيحاء النقدي والناقد لتحولات الأمكنة، كذلك على مستوى الحواس، من غنى للبصر والملمس والطعم والرائحة، وما يتعلق معها بالاهتمام بزراعة الأرض وعالمها النفسي الاجتماعي، الى ما هو من تناقض، حيث بنى الكاتب ما قبل، وعاد وهدمه، انسجاما مع الحالة الشعورية-الفكرية. ويبدو أن انطباعنا حول ما توقعناه من وجود من يستغل الظروف لتحقيق مصالح اقتصادية، كان قريبا. حيث أن هذه الظاهرة لا تقتصر على بلد واحد.
• د. احمد إغبارية كاتب وباحث في الفلسفة ومحاضر جامعي من أم الفحم.