بقلم: د. صبري صيدم
من يملك الرواية، يملك التأثير. هكذا يمكن اختصار الصراع اليوم، لاسيما في ظل تمدد الذكاء الاصطناعي، الذي بات يُسهم ـ عن قصد أو دون قصد ـ في رسم ملامح الخرائط، وتثبيت الروايات، وتوزيع شرعيات الكيانات والحدود. حين تسأل الذكاء الاصطناعي عن شكل الشرق الأوسط سياسيا وجغرافيا، لا يُقدم لك وصفا جغرافيا تقليديا، من تلك التي كنا نحفظها في كتب الجغرافيا، بل يضعك أمام شبكة معقّدة من الدول المتجاورة، بعضها مستقر، وبعضها مهدد بالتفكك، وثالث يعاني من أزمات الهوية الوطنية.
وتظهر فلسطين، مثلا، على الخريطة بطريقة مرتبكة: في بعض النماذج تُدرج ضمن «إسرائيل»، وفي أخرى تُسجَّل كمنطقة متنازع عليها.
هذه ليست مجرد تفاصيل فنية، بل نتائج مباشرة للتعامل مع مصادر بيانات دولية، غالبا ما تتبنى الرؤية الغربية أو الصهيونية، وتُقصي الرواية الفلسطينية عن الوجود.
الذكاء الاصطناعي، في جوهره، آلة لا تملك موقفا أخلاقيا، بل تكرر ما تعلمته. وحين يتلقى معارفه من خرائط غوغل، وتوصيفات ويكيبيديا ومقالات الإعلام الغربي، فإنه يُعيد إنتاج الشرق الأوسط، وفقا لتلك الروايات: دولٌ مرسومة بقلم الاستعمار، حدودٌ نتجت عن اتفاقيات سايكس ـ بيكو، وحكومات توصف بـ»الأنظمة»، لا بالدول ذات السيادة. تظهر دول الخليج كتحالف نفطي تقوده المصالح الغربية، لا كلاعب تاريخي أو حضاري. تُختزل القضية الفلسطينية إلى ملف أمني، وتُصنَّف الحركات التحررية ضمن قوائم «التهديد»، بينما يتم تلميع قوى الاحتلال تحت عنوان «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».
أما على المستوى الجغرافي، فالنماذج تُظهر الشرق الأوسط كمجموعة متفرقة من الكيانات، لا تربطها وحدة ثقافية أو لغوية أو تاريخ مشترك. تضخّم الصحراء، وتُهمّش الأنهار، وتُختزل المدن العريقة إلى صور سياحية فقط. القدس ليست دائما «عاصمة فلسطين»، ودمشق تُربط بالأزمات فقط، وبيروت تُقدَّم كمدينة منهكة، والقاهرة كمزدحمة ومستهلكة، دون أن تُبرز عمق هذه المدن في صناعة التاريخ والسياسة والفكر. لكن هل هذه الصورة هي الحقيقة؟ بالطبع لا.
إنها مجرد انعكاس لصورة مشوَّهة، أو لنقل، صورة لم تُكتمل بعد. فالشرق الأوسط، بتعقيداته وتشظياته، لم يُسمح له برواية ذاته على لسانه، ولا بلغة بنيه. لم تدخل خرائط المقاومة والكرامة والتمرد ضد الاحتلال في قاعدة بيانات النماذج الذكية، ولا في نماذج التصنيف السياسي العالمي. إنما دخلت الصور الجاهزة: الشرق الأوسط كمشكلة، لا كحل؛ كفوضى، لا كإمكان نهضوي.
.
إزاء هذا الواقع، تبدو الحاجة ماسّة إلى إعادة تعريف الذكاء الاصطناعي من داخلنا.. نحن بحاجة إلى منصات عربية تُنتج خرائطها الخاصة، وتوثّق تاريخها بعيونها، وتُدرّب نماذجها بلغتها. نحتاج إلى مبادرات تعليمية وبحثية تبدأ من المدارس، وتنتهي بالمراكز البحثية، تُقدّم للآلة رواية بديلة. رواية لا تُنكر الانقسام السياسي، لكنها لا تسمح للاحتلال أن يتحول إلى «واقع افتراضي». وما بين الجغرافيا والسياسة، فإن الذكاء الاصطناعي لا يرى «الدول» فقط، بل يقرأ المزاج السياسي العام، واستقرار الشعوب، والتوجهات المقبلة. فإن كنا نُريد لخرائط الغد أن تكون أقرب إلى عدالة قضايانا، فلنصنع اليوم بياناتها، ونزرع سرديتها، وندرب آلاتها على ألا تُهمّشنا.
الذكاء الاصطناعي لا يرسم شكل الشرق الأوسط من فراغ، بل مما نوفره له من معطيات. فإما أن نُسهم في تشكيل هذه الصورة، أو نرضى بأن تُرسم ملامحنا بأقلام لا تُجيد سوى اختزالنا في صراعات ومآسٍ. وإن كنا نعيش عصر الذكاء الاصطناعي، فعلينا أن نحيا أيضا عصر الوعي العربي الرقمي، لأن من يُمسك بخيوط البيانات، يُمسك برسم الحدود، وبإعادة كتابة التاريخ.
– المقال مدعم بتقنيات الذكاء الاصطناعي