الجمعة: 10/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

نركع أم نموت واقفين؟/بقلم :بروفيسور عبد الستار قاسم

نشر بتاريخ: 01/04/2006 ( آخر تحديث: 01/04/2006 الساعة: 19:24 )

تعتبر الازدواجية أو الثلاثية الأخلاقية، أو تقلب المعايير الأخلاقية وفق المصالح الذاتية من أهم أسباب تدهور الأمم وانحطاطها وتمزقها وفشلها، ذلك لأن العلاقات العامة بين الناس تفقد موازينها وضوابطها فتسود الفوضى والشكوك والانتهازية والارتجالية والفهلوة والاستهتار بحقوق الآخرين.

عندما يغيب المعيار الأخلاقي وتحل محله المصلحة الذاتية وما يتبعها من معايير أخلاقية متقلبة ومتضاربة تتعدد السلوكيات والمسالك، وتضعف قدرة الناس على توقع ردود الفعل فيقعون في حيرة تدفعهم نحو التفكك والتحلل تدريجيا من الالتزام.

وهكذا تتدهور الأمور إلى أن يتحول انتهاك الحرمات والمحرمات نوعا من الشطارة و"الجدعنة"، والالتزام الأخلاقي نوعا من الهبل يجر على صاحبه الأزمات النفسية.

ربما لاحظ الفلسطيني كيف أن حماس قد أخذت تحسب عدد الأصوات التي حصل عليها رئيس السلطة الفلسطينية بعدما فاز بانتخابات الرئاسة. قالت أنه حصل على حوالي 30% من أصوات من يحق لهم الانتخاب.

لكن فتح جادلت أنه حصل على 64%. ولا بد أن الفلسطيني لاحظ أن فتح تقول إن حماس حصلت على 41% من الأصوات في انتخابات التشريعي. أما حماس فتقول إنها حصلت على 60% من المقاعد.

الفكرة هنا ليست في الأرقام وإنما في الازدواجية الأخلاقية التي تدفع كل طرف إلى تغيير طريقته في الحساب وفق ما تقتضيه المصلحة. وإذا كنا سنتابع السلوكيات على الساحة الفلسطينية، نجد أن المتضاربات الأخلاقية كثيرة وتتكرر في مواقف يومية سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي أو حتى المجموعاتي.

ظهر التناقض الأخلاقي في الآونة الأخيرة بعد فوز حركة حماس في الانتخابات. حملة إرعابية واسعة تم شنها من قبل فلسطينيين ضد الفلسطينيين بخصوص لقمة الخبز التي ستنقطع بسبب غضب أهل الغرب من نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية.

قالوا للناس عبر مختلف الوسائل مثل المقابلات المتلفزة والمقالات والمحاضرات بأن الدول الغربية لن تقدم المساعدات المالية وأن الرواتب ستنقطع وسيدخل الشعب الفلسطيني في نفق من الجوع. كثيرون أخذوا يحسسون على بطونهم وأمعائهم الخاوية سلفا، ويعضون على الأصابع ندما على إغضاب رب اللقمة.

قادة حملة الإرعاب هم أنفسهم الذين طالما رفعوا شعار "نموت واقفين ولن نركع."

المتابعون أمثالي كانوا يعلمون أن الشعار لم يكن من أجل أن يطبقه رافعه وإنما من أجل أن يطبقه غيرهم، وكنا نعلم أن الشعار الحقيقي لديهم وغير المسموع هو "الهريبة ثلثين المراجل."

كان الموت ولا الركوع شعارا يخدم مصالح ذاتية معينة على مدى زمني طويل، أما الآن فلا معنى للشعار ما دام الركوع هو الذي يحقق المصلحة. هذا ناهيك عن أن آلاف الناس الذين رددوا الشعار الثوري قد وضعوه في البراد إلى حين حل مشكلة البطون.

ألم يفكر الناس بداية بأن الاعتماد في لقمة الخبز على الغير عبارة عن عار وهدم للذات الإنسانية وهدر للكرامة؟ وألم يفكروا كيف يمكن أن تكون الأمور إذا كان هذا الغير هو العدو؟

هل من عاقل يضع لقمة خبزه تحت رحمة عدوه؟ أليس هذا هو قمة الركوع؟ لا غرابة، فطالما رفعنا شعارات ودسنا عليها بأقدامنا وفعلنا نقيضها، وتبجحنا بأننا نقوم بالعمل الصحيح. ربما على الكثير منا أن يبدل شعاره فيقول "نركع ولا نجوع."

نحن لا ننسى إدخال العنصر الديني في دعم مواقفنا المتناقضة. في المتسع من الوقت، تجد أحدنا يقول إن الرزق على الله، ولا بد للمرء ألا يبالي بضغط العدو لأن الله أكبر.

أما في الضيق من الوقت فنرشد بعضنا بأن علينا ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة. وفي المتسع نقول بأنه لا يقطع الرأس إلا الذي ركّبه، وفي الضيق نقول بأن من لا يستطيع تغيير الأوضاع بيده فعليه ألا يقبلها بقلبه.

في كثير من الأحيان نحن نحاول ترحيل تناقضاتنا إلى رب العالمين وإلى رسوله الكريم. في هذا قمة التدهور الأخلاقي. وأحيانا نعمل على فلسفة الأمور لكي تبدو في رونق زاه يسر المستمعين.

منا من يقول أن هناك واقعا لا بد أن نتعامل معه إذا كنا حكماء. حقيقة هو لا يدعو إلى التعامل معه بهدف التأثير عليه ليتحول لصالحنا وإنما يدعو إلى القبول به. هذا عبارة عن نفي للذات لأن فيه قبولا لواقع صنعه غيري وأنا لا دور لي فيه إلا أن أكون المطية التي يسري عليها.

الإنسان الأخلاقي لا يقبل الواقع كما هو، وإنما هو الذي يرى الواقع على حقيقته بدون خداع ويضع الخطط الضرورية لتغييره لصالح أمته أو شعبه ويقوم بعملية التنفيذ بشجاعة وحكمة. الهروب من مسؤولية إحداث التغيير وفق متطلبات الشعب أو الأمة عبارة عن تدهور أخلاقي.

في كثير من الأحيان يحاول بعضهم أن يبدو عبقريا ومنقذا، لكن علينا أن نقيس الأمور بنتائجها، والحصاد عادة من جنس البذار. شعارات كثيرة رفعناها قد سقطت، وراية تحرير فلسطين قد اختفت، والاعتماد على الذات شعار ضاع في زحمة التسول من الدول الغربية، والتعامل مع العدو أصبح مصلحة وطنية، الخ.

نحن نمر عن متسول في شارع فنهز رؤوسنا مستنكرين، فماذا عن شعب بكامله حولناه إلى متسول، وننزل في قلبه الرعب إذا أراد التمرد على مصدر التسول؟

قوة المرء أولا في قوته الأخلاقية، وإذا غابت انهدم كيانه حتى لو توفرت له أموال الأرض ومعداتها. نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة لما نحن فيه وعليه، ومواجهة الذات بشجاعة هي الخطوة الأولى نحو ذلك.