الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الجذور الفكرية للفرق التكفيرية ... موروثٌ أرهق أمتنا

نشر بتاريخ: 26/11/2015 ( آخر تحديث: 26/11/2015 الساعة: 10:12 )

الكاتب: حسن صافي المسالمة

منذ القرن الأول الهجري ، وفي آخر عهد الخليفة الراشد الثالث : عثمان بن عفان رضي الله عنه ، والفتنة تطحن عظام الأمة ، وتنخر فيها نخر السوس في الخشب ، حيثُ امتدت يد الغدر والجهل والسوء إلى صدر الخليفة الراشد ذي النورين ، فأزهقت روحه ، وأهرقت دمه ، وفتحت الطريق واسعاً للتجرؤ على سفك الدماء ، وإزهاق الأرواح ، دون أنْ يرفُّ جفنٌ لصاحب فتنةٍ ، أو يتحرك فيه ضمير ، أو تأخذه عاطفة ، أو تنأى به رحمة ، أو تردعه شفقة ، فأوغلت الأيادي في الدماء ، وشربتها كؤوساً حتى الثمالة ، ومُزِّقَتْ الأمة شر ممزق ، وتلاعبت بها السيوف والرماح والأقواس ، وكلما قيل : خبت نارُها ، تبين بأنها تلتهبُ تحت الرماد .

لقد بدأت الفتنة بالدسائس التي حاكها أعداءُ الدين الجديد ، من أصحاب الديانات القديمة ، والتي فقدت شرعيتها بالوحي والكتاب السماوي الخاتم ، ومن بقايا أبناء الإمبراطورتين – فارس والروم - اللتين كُسرت شوكتُهُما ، وأصبحت أملاكهما جزءاً من أملاك الدولة الجديدة ، ومن المنافقين الذين حرمهم الدين الجديد من الرئاسة والمُلْك ، ومن المشركين والكافرين الذين كانت تُجبى لخزائنهم باسم اللات والعُزى أموالُ وهدايا العابدين المُسبحين ، ومن المسلمين الجُدُد والذين لم يُؤثرُ فيهم الدين الجديد تأثيراً إيمانياً صادقاً ومخلصاً ، ولم يَجْلُ صدورهم بعدُ من شوائب الجاهلية ومعتقداتها الفاسدة ، ولم يُخلصُهم من تأثيراتها ورواسبها ، وتطلعات النفوس للقيادة وحب الجاه والسلطان ، والعصبية القبلية ، والانحرافات القومية والشعوبية .

واستمرت الملحمة ، واشتدت نيرانها ، وخرج الخوارج ، وتَشَيَّعَ المُتَشيعون ، وادعى كُلٌّ أنه المُوَقعُ عن الله سبحانه ، وأنه صاحب العصمة بالحق ، وأنه الوريث الشرعي للوحي ، وذلك استمراراً لقانون القبيلة والعشيرة وشيخها وورثته ، فضاعت الأمة الجديدة الوليدة الناشئة ، بين أدعياء الحق الشرعي الإلهي .

لقد خرج الخوارج بما اعتقدوه فهمهم الشرعي الصحيح ، وكذلك المتشيعون من آل البيت ، وركز معي هنا (المتشيعون من آل البيت) ، لذلك فقد بقي الجميع ضمن إطار الدين الجديد ، حتى غالى المُغالون ، وانحرف المنحرفون ، ولبس ثوب التشيع مَنْ فقدوا مُلكهم بالأمس ، وما زالت في صدورهم غُصصُ ذلك ، والتي تلاعب بها الشيطان للكيد ضد الدين الجديد والأمة الوليدة .

الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، بحجة مخالفته لتعاليم الكتاب العزيز بحسب فهمهم ، ومن ثَمَّ انقلبوا عليه حتى اغتالوه ، والعجيب أنهم من القُرّاء الذين يحفظون كتاب الله تعالى ، ولكنهم ليسوا أصحاب علم وفقه ، وهذا ما دلَّ عليه واقع الحال ، حيثُ إنهم خالفوا علماء الأمة ، ومنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم علي رضي الله عنه ، أولئك القوم بطشوا بالأمة ، وأوقعوا فيها ملحمة أكلت الأخضر واليابس ، ومن ثَمَّ فتكوا بالأمة أعظم فتكٍ عندما تجرؤوا على التكفير ، حتى كَفَّروا الصحابة الكرام ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

وذلك التكفير قاموا به لمجرد المخالفة بالرأي ، أو الفهم للآيات والتي تحتمل أكثر من رأي ، ومما ورد عن رسول  قوله : "بلغوا عني ولو آية". رواه البخاري ، وقوله  " فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع " . رواه الترمذي ، وهذا دليلٌ على أنَّ أفهام الناس تختلف بحسب العقول ، والنظر السليم والتمحيص ، ولذلك لا يجوز لمَنْ خالف فهمه فهم غيره أن يُكفره ، ويُخرجه من الملة ، وربما يكون فهمُك للأمور على غير مراد الله سبحانه ، فَتُفْتَنُ وتضل وترتكب المنكرات التي تُغْضِبُ ربَّ العالمين .

لقد تناقل أصحابُ الأهواء ممن ادعوا أنهم أهل السُّنَّةِ والجماعة ، أو ممن ادعوا أنهم أشياعُ أهل البيت رضي الله عنهم ، ما ظنوه حديثاً صحيحاً ، فبنوا عليه هلاك كل الأمة إلا هم وأتباعهم ، والحديث هو : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قالوا : ومن هي ؟ ، قال : ما أنا عليه وأصحابي". حيثُ جعلوا من أنفسهم الفرقةَ الناجيةَ ، ومَنْ عداهم الفرقَ الهالكةَ ، علماً بأنه لم يرد لا في البخاري ولا في مسلم ، وبعد التحقق منه ، ثبت بأنه حديثٌ منكرٌ ، خاصة بأنه يجعل الأمة أدنى من اليهود ومن النصارى ، وهذا يُخالفُ نص القرآن الذي اعتبر أمتنا خير أمة أُخرجت للناس ، حيثُ قال سبحانه:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران .

وأما علماء الحديث ، فيقولون عنه :( كل طرق هذا الحديث مناكير وغرائب ضعيفة ومنكرة، وأحسنها حالا حديث أبي هريرة وهو حديث حسن، مع تساهل كبير في تحسينه لتفرد محمد بن عمرو به، وهو صدوق له أوهام خاصة في روايته عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ولهذا كان القدماء يتقون حديثه كما قال يحيى بن معين. ورغم تصحيحه لم يرد فيه "زيادة كلها في النار". (راجع حديث الافتراق : ("تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) ، بين القبول والرد ، دراسة حديثية إسنادية د . حاكم المطيري ، كلية الشريعة ، قسم التفسير والحديث ، جامعة الكويت ، 2009 . بحث محكم في مجلة جامعة صنعاء للقانون والدراسات الإسلامية في العدد العاشر) .

والحديث لمز فيه أحمد بن تيمية ، وأنكره ابن حزم الظاهري ، ومن علماء اليمن ابن الوزير ، وكثيرٌ من العلماء في العصر الحديث ، منهم الدكتور يوسف القرضاوي ، وغيره كثير . وذلك لطرقه المنكرة ، ولما رأوا من عواقبه المهلكة والتي عادت على أمة الإسلام بأعظم الضرر ، ولا نحتاج على ذلك من دليل ، فالأدلة والبراهين مجللةٌ بدماء المسلمين في كل مكان .

فالحركات التكفيرية عاثت في الأرض فساداً وباسم الدين ، سواءً مَنْ ادعوا بأنهم أهل السَّنَّةِ والجماعة ، كالقاعدة وطالبان وداعش ، والذين شتتوا الأمة ، وقتلوا من أبنائها أكثر مما قتل أعداؤها ، وأساؤوا لهذا الدين باعتداءاتهم على المجتمعات المختلفة باسمه ، فشوهوا صورته ، وعطلوا انتشاره ، وما زالت مصائبهم تحرق في الأمة حتى اللحظة ، في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية .

أومَنْ ادعوا بأنهم أشياعُ أهل البيت ، من العرب ، ومن أهل فارس الذين يطمحون لإعادة الإمبراطورية الفارسية من جديد ، والانتقام من أمة الإسلام التي أطاحت بتلك الإمبراطورية وأطفأت نيرانها ، فأدخلوا على الدين ما ليس منه من معتقداتٍ وشرائع ، تُخالفُ ما جاء به هذا الدين من تعاليم ، كاللطم وعصمة الأئمة ، وتعظيم القبور والمقامات ، وزواج المُتعة ، وأخذ الخُمس من عامة الناس ، وغيرها كثير ، مما استحلوا به المُحرمات والمحارم ، وباسم الدين .

وظهرت سَوْءاتُهُم واضحةً هذه الأيام بتحالفاتهم الظاهرة ، مع أعداء الأمة في كل مكان غرباً وشرقاً ، حتى مع أعدائنا هنا ، فما عُدْنا نغترُّ بالخُطب الرنانة التي تدعي عداوتهم لهم ، وتتضحُ تعدياتهم اليوم على المسلمين والعرب منهم بالذات ، في بلاد الشام والعراق واليمن ولبنان والأهواز وغيرها ، حتى وصل الأمرُ إلى احتلال الأراضي والسيطرة عليها ، وإعادة التوطين بشكل يضمن التواصلَ الجغرافي والديمغرافي والاجتماعي لأتباعهم ، وقتل وتشريد وتهجير أعدائهم من أهل السَّنَّةِ ، وهذا واضحٌ فيما يجري في العراق وسوريا واليمن ولبنان .

ولا أرى بأساً في الإشارة إلى تدمير العراق كدولة وتقسيم أراضيها ، والتدمير الديمُغرافي لمحافظاتها بما يضمنُ السيطرة الفارسية ، وكذلك تدمير سوريا واليمن ، والسيطرة والهيمنة غير المعقولة في لبنان ، واحتلال الجزر الإماراتية الثلاثة ، والفتنة التي يحاولون بثها في أرض الحجاز وتركيا وليبيا والجزائر ، كل ذلك لا يخفى على عاقل ، ولا يخفى أيضاً الرضا الغربي سواءٌ من الولايات المتحدة الأمريكية ، أو الاتحاد الأوروبي أو كندا أو أستراليا أو الصين ، حيثُ بدا ذلك واضحاً في الملف النووي ، والذي ما عُدْنا نسمعُ عنه شيئاً ، وكأنه لم يكن ولم يعد يشكل أي خطرٍ وعلى أي أحد ، أما العراق في عهد صدام رحمه الله وبالكذب والتزوير ، فقد كانت تشكل خطراً عظيماً لامتلاكها أسلحة الدمار الشامل ، والتي اتضح بأنها كذبة كبيرة وواسعة ، كانت لأهدافٍ مبيتةٍ .

من ذلك نرى بأن الأمة اليوم تُطحنُ طحناً ، برحىً مختلفةٍ ظاهراً ، ومتفقةٍ باطناً ، سواءً من داعش وأخواتها ، أو من فارس وانعكاساتها ، وبالتعاون الوثيق مع الروس والأمريكان والأوروبيين ، وللأسف الشديد فالأمة بشكلٍ عام لا يوجد لها قيادةٌ صالحةٌ تقودها في درب النجاة والخلاص من كل ذلك ، فلا مرجعية دينية موثوقة تُقر الصحيح العام وتأمر به فتُطاع ، ولا مرجعية سياسية مقبولة يوثق بها تأخذ زمام المبادرة ، فتنجو بالأمة من هذا الضياع .

وما يؤكد ذلك ، أنَّ الأمة اليوم في الغالب ، تُقاد من قبل الجُهال والأقزام والمهزومين ، وتُدارُ أمورُها من قبل المتخلفين ، ويُفتي في شؤونها المختلفة الصبيان وغيرُ المختصين ، والغريب العجيب أنَّ العلماء وأصحاب الاختصاص والفهم والإدراك والمبدعين ، لا شأن لهم ، ولا أحد يلتفتُ لهم ، وفي الأغلب الأعم يستقطبهم أهل الغرب والشرق ، ويمنحونهم الدرجات والأموال والمراكز التي تليق بهم ، ولكن لخدمة بُلدانهم وشعوبهم ، وليس خدمة الأمة والتي هي بأمس الحاجة لهم . وبذلك ستبقى الأمة تحترق بنار الجُهالٍ ، وتُقتلُ بفتاوى الصبيان وعلماء الشيطان ، وتُهزمُ بقيادة المهزومين المُتغلبين .