الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف
خبر عاجل
مصادر عبرية: اصابة مستوطن بعملية طعن واطلاق النار على المنفذ قرب الرملة

الريادةُ قرارٌ وإقرارٌ بالتغيير... لنتيجةٍ وصفةٍ لا تُدَرَّس

نشر بتاريخ: 08/10/2018 ( آخر تحديث: 08/10/2018 الساعة: 11:33 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

أكاديمي ومختص في التنمية المستدامة والموارد البشرية.
في وصفي ذات مرة في مقالةٍ سابقةٍ لكلمة "الريادة" وخصوصاً في جانبها التطبيقي، والموجه نحو التنمية الحقيقية والمستدامة، على اعتبار أنها مفهومٌ عام يعني لغوياً التمّيز والتفرّد، والاضافة النوعية في مجالات متعددة، لم أجد حينها تعبيراً أبلغ من "الريادة أن أصنع من الموجود ما هو مفقود"، وذلك في بنائنا المرتبط بمستقبل ذواتنا ومجتمعاتنا، في ظل الامكانيات المتاحة وفي مستنقع الظروف المختلفة، ولو قمنا بإعادة صياغة المفهوم اصطلاحياً، لوجدنا أن الريادة في مفهومها العام أيضاً؛ تعبر عن سلوكٍ مقترنٍ بقيمة مضافة، بمعنى آخر أن تكون "منتجاً في قولك وفعلك" لأن كلاهما سلوك، ولكي يتحقق ذلك، يشترط أن يكون ذلك السلوك سلوكاً قويماً، لنستطيع وصفه بكلمة "ريادي" وليكون هذا الوصف ذو تأثيرٍ حقيقي إن صح التعبير لا إسمي فقط ، وذلك على الصعيدين الخاص والعام؛ بمعنى آخر (الشخصي والمجتمعي).
إنّ ريادية أي عملٍ أو فعلٍ هو في البداية مبادرةُ شخصٍ واحدٍ، يحمل فكرة كالسراج الوهّاج، فتضيئ للآخرين عتمة الطريق، فعمر بن عبد العزيز رائدُ التنمية والحَوْكمة الحقيقية، كان رشيداً وريادياً بحيث كانت تجمع في عهده أموال الزكاة ولا يحتاجها أحدٌ من المسلمين، حتى قال قولته المشهورة "انثروا القمح على رؤوس الجبال لئلا يقال جاع طائرٌ بأرض المسلمين"، وكانت دولته خاليةً من الفساد فقيل "أغنى عمرُ الناس"، وغاندي رائد وأسطورة التحرر ليس فقط عند الهنود بل العالم الحر أجمع، ومنديلا رمزاً للبيض كما للسود رغم سواده، ومهاتير محمد عاد مجدداً للتاريخ الماليزي الحديث، الذي خطه بإمضاء يده شخصياً، وأردوغان الذي يتعامل مع العالم كإمبراطور بني عثمان الجديد، مذكراً بالماضي العثماني التليد، وحالماً به لا واقفاً عنده، وقس بناءً على ذلك والشواهدُ كثيرة ... على أفكار أشخاصٍ أناروا الطريق وشحذوا الهمم، بحيث جعلوا من أنفسهم قدوة لمن أراد أن يقتد، لذلك يجب على كلٍ منا أن يسلك سبل التغيير الذي يريده ويراه في العالم، لتتحول من خلاله تلك المبادرة الفردية إلى جماعية ذاتُ تأثيرٍ عام، محققاً لقيمة الذوات آحاداً وجماعات، وبالتالي انتقال ذلك الأثر إلى تكوين مجتمعات منتجة في جميع مجالات الحياة، لذا يجب على الأفراد أن يتحركوا لإحداثها، في حياتهم الشخصية أولاً، لأنها منطلق إحداث التغيير الجماعي وأساسه بدءً بالفرد ثم الجماعة تطبيقاً لقوله تعالى:(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فالتغيير الريادي هنا نقطة بداية يمثله شخص، ونقطة نهاية يمتثل به مجموعة من الأفراد المتبنين لتلك الفكرة والمقتنعين بها والحالمين فيها، لتصبح فيما بعد إلهاماً للغير ونماذجاً للتعميم والتقليد القويم والسليم من قبل الآخرين.
ولا زلتُ مقتنعاً -عزيزي القارئ الكريم- بلا أدنى شك، أن الريادة هي نتيجةٌ لصفةٍ لا تدّرس في كتب أو مناهج تدريسية، إذ أنها ليست عملية كالإدارة مثلاً، وليست معادلةً رياضيةً، أو قانوناً إذا سقط منه جزءٌ بسيطٌ أصيبت نتيجته بالخلل، إنما هي أي "الريادة"؛ صفةٌ لمن يدرك المسافة الحقيقية والفاصلة بينه وبين النجاح، تحت مسلمة المحاولة في مواجهة وهم الفشل والفاشلين، بقرارٍ وإرادة شخصية قبل كل شيء، وذلك بإدراك الفرق بين الفشل والنجاح وأسبابهما، والتي قد تُكَوِنُ طريقةَ تفكيره تجاه الأشياء والعلاقة فيما بينها، ويتم ذلك من خلال عدم طرح نفسك بعيداً، والاهتمام بتنميتها وتطويرها في الجوانب التي تصنع ذلك الفارق في شخصيتك وقدراتك، لصالح احدى النتيجتين: "الفشل أو النجاح"، بحيث تصنع من شخصك علامةُ تعجبٍ "!" فارقة، لا علامة استفهام "؟"، وكما هو الحال في النماذج سابقةِ الذكر، فأنت بحاجةٍ أن تبني ذاتك لتنعم بنتائج قدراتك، فمعرفتك لهواياتك، وصياغتك لأحلامك، في هيئة أهداف واقعية ومنظمة، ستتحقق بمشيئة الله لا محالة، لأن الأعمال بالنيات، ولكلِ امرئٍ ما نوى إليه، إن أخذ بالأسباب المؤدية للنجاح في جميع شؤون حياته، قال تعالى: " إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ".
ومن هذا المنطلق إذا ما أردنا صناعةُ ريادةٍ حقيقيةٍ في مجتمعاتنا على صعيد المنظومة الفردية والجماعية، يجب علينا أن لا نغفل أهمية عملية التعليم في صقل الشخصية الريادية، وخلق تلك الصفة كنتيجة لعملية التعليم والتثقيف وليس تدريس الريادة ذاتها، لأنها نتيجة وصفة لا تدرّس، شأنها شأن النجاح والابداع والارادة، بحيث تقود إلى صناعتها مجموعة من المعايير المصاغة وفق منظومة مدروسة من (المدخلات، والعمليات، والمخرجات)، لصناعة وخلق تلك الصفة في نهاية المطاف كنتيجةٍ حتميةٍ لتلك المنظومة، والتي تجمع الصفات الايجابية السابقة كافة، بحيث تتحلى هذه المنظومة في جميع جزئياتها بالصفة الريادية ذاتها لنصل إلا مبتغانا، ويتم ذلك من خلال البناء والتكوين الفكري والسلوكي للفرد، من أجل صناعة وبلورة تلك النتيجة والصفة الخلّاقة والمستدامة، والمتمثلة في الريادة والشخص الريادي، وما يتعلق بهما من مهارات حياتية تحقق تلك الصفة الريادية، لأن كلاً من التكوينين السابقين يقود للآخر ويؤثر فيه بعلاقة تكاملية لا تضادية، فالتكوين السلوكي مثلاً يبدأ منذ نشأة الانسان طفلاً، وتكون الأسرة هنا نقطة البداية والمنظومة الأولى، وهي تشكل لبنة أساسٍ وارتكازٍ لأي مجتمع، فما يكتسبه الفرد من منظومة اسمية وقِيَمية ومعرفية حول ما يحيط به من أشياء، ما هي في مجموعها إلا معاييراً أخلاقية وتعليمية، تحدد أفكاره وسلوكياته، وتوجهاته للتكيّف والبناء، والقبول المجتمعي لصناعة مستقبله، ومن أجل بناء ذلك السلوك المثالي لإيجاد الفرد الايجابي المنتج، والقادر على الابداع والابتكار والتفكير الناقد، يجب علينا خلق منظومة تعليمية مستدامة رؤيتها من "المهد إلى اللحد"، بحيث يتطور فيها الفرد فكرياً وسلوكياً، وذلك على امتداد مراحله العمرية المختلفة كنوعٍ من التعليم المستمر لمدى الحياة، والمرتبط بالبيئة ومكوناتها، وما يتعلق بها من مشكلات تحفز على خلق الحلول، وفشل يعبد الطريق لإرادة النجاح، وتجربة تحتمل الخطأ لتقودنا إلى الصواب، رغم أننا ما زلنا نفتقر في تنشئتنا إلى "المهارات الحياتية"، والتي بدورها تصنع ذلك الفارق في كل ما سبق ذكره، من مهارات للتفكير والتفكير الناقد، ومهارات للاتصال والتواصل الفعال، والتعاطف وكسب التأييد، والتحكم بالذات وادارة الوقت، وادارة المشكلات، وصياغة الأهداف وقياس تحققها، والتي هي في نظري ما يقود إلى شخص ريادي مبادرٍ وقادرٍ على التغيير والابداع، إضافة إلى المعلومة المكتسبة من باب التجربة والتطبيق، لإضفاء لمسة من التميّز في مجال اختصاصه، عبر كفايات مهنية متخصصة كلٌ حسب مجال اختصاصه وعمله، وهو ما سيقود في النهاية إلى إشغال وإعمال العقل بكل ما هو مفيد، بهدف تعزيز نتيجة حقيقية وفعلية ذات تأثير إيجابي على صعيد الذات والمجتمع، فمرور الفرد بمعادلة (التجربة، فالإدراك، فالاتجاه، فقيمة ومعتقد) يقود إلى الثقافة المعممة مجتمعياً كنتيجة، لصناعة الفارق فيما نقول، وذلك لصقل الفكر والسلوك الفردي والجماعي المنتمي والمبادر والخلاق للإبداع والمبدعين.
وفي خلاصة القول يرى المختصون في الجانب الإنساني كعلماء النفس والاجتماع وغيرهم، أن مقدار نجاحك في حياتك العملية يعتمد على ذكائك الاجتماعي بنسبة وقدرها (80%)، بمعنى آخر تفاعلك مع مكونات بيئتك ومحيطك المادية والبشرية منها، في المقابل تبلغ النسبة (20%) لأنواع الذكاء الأخرى، وأن ما يحقق هذه النسبة المرتفعة والعظمى لصالح ذكائك الاجتماعي، هو تمتعك بجملة من المهارات الحياتية المتنوعة، إضافة لكفايات متخصصة في جانب معين بالتحديد، والمتمثلة في اختصاصك العلمي أو المعرفي؛ لذا نرى -وفي أحيانٍ كثيرةٍ- أن هناك رياديون كثر ممن لا يحملون مؤهلات علمية عالية، ولكنهم يتميزون عن غيرهم بجملة من المهارات الحياتية مثل (أنماط التفكير المختلفة، والقدرة على التكيّف، ومهارات حل المشكلات، ومهارات التعاطف، والاتصال والتواصل الفعال، وكسب التأييد)، والتي في جملتها العامة تجعل من الفرد شخصاً ريادياً ومبادراً ومبدعاً، وبالتالي حرّيٌ بنا كأفراد ومؤسسات ترعى الريادة كرؤية ورسالة في عملياتها المختلفة، أن نفكر بالمفهوم ونتناوله ونتداوله على أنه نتيجة لعمل مضني وشاق وليس مجردُ شعارٍ استهلاكي في شكله ومضمونه، ولقد قلت مراراً وتكراراً في أكثر من مقام ومقال أصف فيه حالتنا العربية، مع بالغ الأسف والحسرة من دون تعميم للموضوعية في طرحي هذا، أن المجتمعات غير المنتجة ثقافياً، تنظر في استخدامها لبعض المفاهيم، كنوع من الموضة والأزياء المعاصرة، تلبسها تقليداً للآخرين (فالتنمية، والتغيير، والديمقراطية، والحَوْكَمَة، والريادة ... كلها مفاهيم بنات ساعاتها فقط، وليست للزمن أو الحقيقة أو القيمة المضافة فعلياً.