الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

انتفاضة الأقصى.. الفوضى التي أطاحت بعرفات

نشر بتاريخ: 29/09/2019 ( آخر تحديث: 29/09/2019 الساعة: 16:17 )

الكاتب: ناصر دمج

بادىء ذي بدء، من المفيد لفت اهتمام جمهور القراء الفلسطينيين والعرب، إلى أن انتفاضة الأقصى عام 2000م لم تكن الانتفاضة الثانية، على عكس ما هو شائع عنها، لأن الانتفاضة التي سبقتها لم تكن الانتفاضة الأولى أيضاً؛ بل كان اسمها هبة النفق؛ ولأن الانتفاضة الأولى في التاريخ الفلسطيني كانت ضد الاستعمار الانجليزي والاستيطان اليهودي؛ هي انتفاضة القدس الأولى أو ما عُرِفَ تاريخيًّا بانتفاضةِ موسمِ النّبي موسى التي بدأت أحداثها يوم 4 نيسان 1920م، لكن المغالاة في وصف انتفاضة الحجارة بالأولى والأقصى بالثانية، كادت تحذف هبة النفق، التي بدأت أحداثها يوم 25 أيلول 1996م.
لهذا فإن منح الهبات والانتفاضة الشعبية أرقاما عشوائية وغير منتظمة يلحق ضرراً بليغا بمحتويات سفر الكفاح الوطني، لأنه يسقط من تعداده غير انتفاضة وهبة شعبية؛ ومنها ما لا تحمل رقماً مثل هبة النفق، ما يعرضها لخطر الحذف، لذا فإن الانتفاضات والهبات الشعبية تستمد أسماءها من ذاتها ومن أسباب إندلاعها.
لأهمية هذا التصويب، يجب علينا وصف الأحداث كما هي وعلى طبيعتها وكما صنعها روادها، أي من المنصف وصف انتفاضة عام 2000م بانتفاضة الأقصى بسبب رفض شعبنا لاقتحام "إريك شارون" لساحات الأقصى، وهبة النفق بسبب افتتاح نتياهو لنفق كبير تحت المسجد الأقصى، والانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1987م بانتفاضة الحجارة، لأن عظمتها وتميزها كان نابعاً من استخدام المشاركين فيها للحجارة وهم يتصدون للمحتل الإسرائيلي، وهو ما أضفى عليها هالة أسطورية فريدة؛ وحفر لها مكاناً مميزاً في تاريخ ثورات الإنسانية.
عودة على بدء، يمكنني القول: بأن واحدة أسباب إعجابي القليلة بالأخ الرئيس "أبو مازن"، هو رفضه المبكر للعديد من ممارسات المشاركين في انتفاضة الأقصى، فقد حدثني الأخ القائد "حسين الشيخ" عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عندما كان أميناً لسر مرجعية حركة فتح في الضفة الغربية، في غير مرة ومناسبة، عن لوم الرئيس "أبو مازن" له ولمروان البرغوثي بسبب ظنه بأنهما تسببا بعسكرة تلك الانتفاضة، إنسجاماً مع رغبة المغفور له "ياسر عرفات" باستخدام السلاح للرد على اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
البداية والمآلات المدمرة لانتفاضة الأقصى 2000م
اقتربت انتفاضة الأقصى في يومياتها ونتائجها، إلى حدّ التطابق مع ثورة عام 1936م، وذلك بسبب النّتائج الكارثيّة التي تسبّبت بها وألحقتها بالشّعب الفلسطينيّ، إنّ ردّة فعل الفلسطينيين على زيارة شارون لإحدى باحاتِ المسجد الأقصى، هو أمرٌ طبيعيٌّ ويندرج ضمن إطارٍ متغيرِ الفعل وردّ الفعل، الذي يتحكّم بالصّراع العربي الإسرائيلي منذ نشأته، لكن الفوضى العارمة التي رافقت استخدام السلاح من قبل المشاركين في الانتفاضة وتعاظم مظاهر التسيّبِ الميدانيّ للفعاليات العسكريّة الذي لم يمتُّ للعمل الجماهيريّ السلميّ بصلةٍ، وحمّلِ الانتفاضة أعباءً ما كان لها أن تقدرَ على حملِها، بسبب ردّة فعل الإسرائيليين المدمِّرة، مقابل كلّ رصاصةٍ يُطلقها المسلحون الفلسطينيون، وذلك على عكس ما سارت عليهِ الأمورُ خلال انتفاضة الحجارة عام 1978م – 1993م "التي ابتعد فيها الفلسطينيون عن الأساليبِ التّقليديةِ لحرب العصابات، ونجحوا في تحييد التفوّقِ العسكريّ الإسرائيليّ الواسع، باستخدامهم العفويّ للعصيّ والحجارة، وتوظيفِ وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة، من أجل إيصالِ رسالتهم ومطلبهم العنيد بالحريّة إلى العالم".
يتّضحُ لقارئ تلك المرحلةِ بأنّ الفلسطينيين في سياق انتفاضة الأقصى، سّيرتهم المتغيراتُ التي شاركوا في صنعها، وتلك التي لم يكنْ لهم فيها أيّ إرادةٍ، وأبرزها وأهمّها وأخطرها على وجه الإطلاق، هو سبب اندلاع شرارة الانتفاضة !.
كيف اندلعت شرارة الانتفاضة ؟
قبل زيارة شارون إلى الأقصى بيومٍ واحدٍ، بادر الإسرائيليون عبر قناةٍ أمنيّةٍ فلسطينيّةٍ ما ووساطة عضو كنيست عربيّ، إلى الاستفسار من السّلطة الفلسطينيّةِ عن المخاطر التي من الممكن أن تحملها زيارةُ شارون إلى ساحة الأقصى، بعد ساعاتٍ من التشاور مع ياسر عرفات، قيل للإسرائيليين بأنّه لا خطرَ ولا ضررَ من هذه الزيارة !! لقد كان السّؤال الإسرائيليّ خبيثاً؛ والجوابُ الفلسطينيّ بمنتهى المكر، لقد مارس كلاهما لعبةَ الخداعِ أملاً في أن يحقّق كلُّ طرفٍ مآربَهُ السياسيّةُ بعد فشلِ مفاوضاتِ كامب ديفيد.
فعندما يلوم العالمُ إسرائيلَ على زيارة شارون لساحة الأقصى التي من الممكن أن تتسبّبُ بسفكِ الدّماء، فإنّ إسرائيل ستسارعُ إلى القول بأنّها طلبتِ الأذنَ من السّلطة الفلسطينيّة، عبر قناة التّنسيق المُشار إليها، أمّا الفلسطينيون فإنّهم سيقولون لأنفسهم فقط، بأنّهم استدرجوا شارون إلى ساحة الأقصى، لتشتعلَ من هناك شرارةُ الاحتجاجاتِ الجماهيريّة، التي سترسل رسائل قويّةً لكلينتون وباراك، لتؤكّدَ على صحّة تخوّفِ عرفات من عدم المُجازفةِ بقبول مقترحاتِ كلينتون وباراك في كامب ديفيد في تموز 2000م، ولكن نتيجةَ هذه المخادعةِ، كانت بمثابة خسارةٍ ماحقةٍ للفلسطينيين، لربّما لن يتمكّنوا من استدراكِ تداعياتها مستقبلاً، إنَّ استجابةَ المستوى السياسيّ الفلسطينيّ للخديعةِ الإسرائيليّة، انتهت إلى أنْ يخدع الإسرائيليون الفلسطينيين، والفلسطينيون يعتقدون العكس، لعلّ هذه الواقعة تذكّرنا بقول معاوية بن أبي سفيان لولده يزيد "يا بنيّ إذا تخادعت لشخصٍ ما، واستجاب لك فقد خدعك" لقد أراد ياسر عرفات، أن يٌثبتَ للإسرائيليين والأمريكيين والعالم من خلفهم، بأنّ رفضَهُ لمقترحاتِ باراك وكلينتون في كامب ديفيد، كان لهُ ما يبرّره، وأمامنا الدّليل، وهو هذا الغضب الجماهيريّ العارم الخارج من القدس.
فشل الأداءُ السياسيّ والإعلاميّ الفلسطينيّ فاقم الخسارة
في الوقتِ الذي كانتْ تخرجُ فيهِ الإنتفاضةُ من قبضةِ ياسر عرفات لصالحِ الأعمالِ المسلّحةِ، كانَ الجدلُ السياسيّ الفلسطينيّ الإسرائيليّ يشتدُ حولَ من يتحملُّ مسؤوليّةَ تصعيدِ العنفِ، وقدْ بادرَ شارون بالإسراعِ إلى الموافقةِ على مبادرةِ وقفِ إطلاقِ النارِ التي حملها المبعوثُ الأمريكيّ وليم بيرنز إلى شارون وعرفات في شباط 2002م، وفي مستهلّ آذار بدأَ المبعوثُ الأمريكيّ سلسلةَ زياراتٍ مكّوكيةٍ للمنطقة، شملتِ الأُردن والِإمارات والعَربيّة السُّعودِية ومِصر والسُّلطة الفلسطينيّة، للحصولِ على تأييدٍ للمبادرةِ الأمريكيّةِ المصمّمةِ وفقًا لتقريرِ جورج ميتشل، والتي تنُص على وقفٍ متزامنٍ ومتبادَلٍ لإطلاقِ النّارِ، حيثُ أشترطَ شارون أنْ يلتزمَ الفلسطينيون بوقفِ إطلاقِ النارِ، في الوقتِ الذي لمْ يتوقفْ فيهِ عنْ توجيهِ الإتّهاماتِ واللومِ للفلسطينيينَ أمامَ الدبلوماسيينَ الأجانب، ليُحملَهُم مسؤوليةَ استمرارِ تدهور الوضعِ الأمني في المنطقةِ مشددًا على "إنّه لا يمكنُ البدءُ ببحثِ الموضوعِ السياسيّ قبلَ أنْ يسودَ الهدوءُ كافةَ المناطقِ مئةً بالمِائة".
في هذهِ الأثناء تبايَنتْ مواقفُ المستشارينَ السياسيينَ المحيطينَ بياسر عرفات مِن هذا المُقترح، وقدّمَ لَهُ غالبيَتهُمْ النصيحةَ القائلةَ بأنَّ قبولَ هذهِ المبادرةِ يعني ضمنيًّا إدانة الطرفِ الفلسطينيِّ بإطلاقِ النارِ، وموازاةِ الطّرفِ الفلسطينيِّ مع الإسرائيليِّ عسكريًا، وهذا مُنافٍ للواقعِ، لذا فإنَّ عرفاتَ امتنعَ عن الموافقةِ على هذهِ المبادرةِ، وأخذَ يتهرّبُ من اتّصالاتِ المبعوثِ الأمريكيِّ بيرنز، وقدْ أطلقَ هذا المسلكُ العنانَ للمستشارينَ السياسيينَ للرئيسِ كصائبِ عريقات وياسر عبد ربّه ونبيل أبو ردينة، لتعليلِ الموقفِ الفلسطينيِّ من رفضِ هذه المبادرةِ، وهو مساواتها بينَ الطرفينِ الفلسطينيِّ والإسرائيليِّ، وإنَّ القبولَ بالمبادرةِ كما هي سيلحقُ أكبرَ ضررٍ بالقضيّةِ الْفلسطينيّة، وفي أوائلِ آذارَ قرّرَتِ الولاياتُ المتّحدةُ إرسالَ مبعوثِها إلى إسرائيل ومناطق السُّلطة الفِلسطينيّة لمقابلةِ شارون وعرفات، وعِندما وصلَ وليم بيرنز إلى المقاطعةِ في رامَ الله فلمْ يجدِ الرئيسُ عرفات هناك، لأنه طارَ في اليومِ نفسه إلى موسكو عبرَ مطارِ عَمّان، وقامَ صائب عريقات باستقبالِ المبعوثِ الأمريكيِّ بدلًا من عرفاتَ، وهو غيرُ مخوّلٍ بإعطاءِ إجاباتٍ على أسئلةِ المبعوثِ الأمريكيِّ، وعلى الفورِ غادرَ (بيرنز) مقرَّ الرّئيسِ عرفات عائدًا إلى واشنطن، واستشاطتِ الخارجيَةُ الأمريكيَةُ غضبًا منْ هذا التصرّفِ ومعها الرّئيس الأمريكيّ جورج بوش، وعليهِ حسمتْ واشنطن كامِلَ خياراتِها المُنحازة أصلًا لصالح إسرائيل، لكنْ هذهِ المرّة على كافّةِ الصُّعد وبِشَكلٍ علنيّ، لِماذا؟ لأنَّ هذهِ اللحظةَ ستكونُ اللحظةَ المُناسبةَ للبدءِ بتنفيذِ مشروعِ المحافظينَ الجُدد، - الذي أشترت إليه أكثر من مرة - والقاضي بإنهاءِ وجودِ السّلطة، الذي قدّمهُ المحافِظون الجُدد بشكلٍ خطيٍّ لأرئيل شارون وبنيامين نتنياهو في عام 1999م، وذلك قبلَ وصولِهم إلى السّلطةِ بقيادةِ جورج بوش، وينصُّ هذا المشروعُ على إلغاءِ اتّفاقِ أوسلو، وإعادةِ احتلالِ الضّفةِ الغربيةِ، وتدمير السّلطةِ الفلسطينيّة، وعدم العودةِ إلى الحديثِ عنْ مبدأ الأرضِ مقابل السلام، وبالفعلِ هذا ما سَيُنفّذهُ شارون في هذهِ اللحظة، وقدْ أضافَ شارون لِهذا المشروعِ دوافعَهُ الخاصّةِ والمتراكمةِ ضدَّ عرفاتِ من بيروت إلى رامَ الله، ومعاقبته على جريمتِه بتفجيرِ الإنتفاضةِ، بعدَ ذلك سَيصبحُ بإمكانِ الإسرائيلييَن والأمريكيينَ إعادةُ ترتيبِ طاولةِ المفاوضاتِ من جديدٍ وفقًا للمشيئةِ الإسرائيليةِ.
وعبّرَ عنْ تجلّي هذهِ الحالةِ لدى المُحافظيَن الجُدد نائبُ وزيرِ الدّفاعِ الأمريكيِّ بول وولفويتز بقولهِ "إنَّ إسرائيلَ بالنّسبةِ لنا هي حاملةُ طائراتٍ، والفلسطينيون هم المسؤولونَ عنِ العنفِ" ولرُبّما بِهذا التَّصرُّف من قبلِ عرفات قرّرَ المحافظونَ الجُدد تكسيرَ أقدامِهِ ومنعِهِ من السّفرِ خارجَ مناطِقِ السُلطةِ بشَكلٍ نهائيٍّ، وأعطى شارونُ الضوءَ الأخضرَ للجيشِ استعدادًا لتنفيذِ الهجومِ على مناطق السّلطةِ الفلسطينيّةِ، وتسرّبَ الخبرُ بينَ أعضاءِ الكنيست، وعلى الفورِ أسرعَ النائبُ العربيُّ في الكنيست الإسرائيليّ أحمد الطّيبي إلى مقرِّ الرّئيسِ، وأخبرَ عرفات عبرَ اتصالٍ أجراهُ معهُ من داخلِ المقاطعة، بأنَّ شارون قرّرَ القيامَ بعمليةِ قصفٍ جوّيٍّ للمرافقِ الحيويةِ في المُدنِ الفلسطينيّة كمراكزِ الأمنِ والسّجونِ والمستشفياتِ والجامعاتِ، على الفورِ عادَ عرفات من موسكو إلى عَمّان إلى رامَ الله، وأعدَّ له مستشاروه من جديدٍ بيانًا إستدراكيًّا في مُنتهى التّلعثُمِ أعلنَ فيه حَرفيًّا "بأنَّهُ يوافقُ على وقفِ إطلاقِ النارِ دونِ قيدٍ أو شرطٍ دونِ قيدٍ أو شرطٍ دونِ قيدٍ أو شرطٍ"، ودعا المبعوثَ الأمريكيَّ وليم بيرنز للعودةِ إلى رامَ الله" لكنْ هذهِ الخطوةَ كانتْ متأخرّةً جدًا ولنْ تُفيدَ الرئيسَ الفلسطينيّ في شيءٍ، بعدَ أنْ قُضيَ الأمرُ بما لا يُمكن استدراكُهُ، ولم يخطرْ على بالِ عرفات أو أيٍّ من مساعدِيهِ بأنَّ هذا الخطأَ التّكتيكيّ ذو الغلافِ الإعلاميّ المدمّرِ، سيشكّلُ بدايةَ النّهايةِ الدراماتيكيّةِ لمسيرتهِ السياسيّةِ والشخصيّةِ، واتخذتِ الإدارتيْن الإسرائيليّةِ والأمريكيّةِ قرارًا بإقفالِ بواباتِ رام الله على عرفات بعد عودَتِهِ من السّفرِ، ومنعِهِ من الخروجِ منها نهائيًّا، وتأكّدَ شارونُ بأنَّ المُعطياتِ الأميركيّةَ والعالميّةَ الجديدةَ، تُعطيهِ الفُرصةَ التي يتوجّبُ عليهِ استغلالُها واستكمال مخطّطهِ في حصارِ الرّئيسِ الذي بدأَ بتنفيذهِ مع نهايةِ عام 2001م، عِندما أعلنتْ إسرائيلُ يوم َ8 كانون الأول 2001م، إنَّ قرارَمُغادرةِ الرّئيسِ عرفات لمدينةِ رامَ الله خاضعٌ لها وحدَها، لتبدأَ مرحلةُ محاصرةِ الزّعيم الفلسطينيّ في رامَ الله، وبعدَ خمسةِ أيامٍ، وفي 13 كانون الأول 2001م، تحركتْ آلياتٌ عسكريّةٌ إسرائيليّةٌ، حولَ مقرِّ الرّئيسِ عرفات، وقصفتِ الطائراتُ الإسرائيليّةُ مقرَ الرئاسةِ في غزّة وذلكَ لأوّلِ مرةٍ منذُ قيامِ السّلطةِ، ومُنِعَ عرفـاتُ من التّوجهِ إلى مدينةِ بيتَ لحم للمشاركةِ في احتفالاتِ عيدِ الميلادِ في 24ـ 25 كانون الأول 2001م.
ثمَّ بدأَ حصارُ مقرِّ عرفـات يأخذُ شكلًا تصعيديًا، وبدأتِ الدباباتُ تقتربُ من المقاطعةِ في رامَ الله، ثمَّ تنسحبُ لتعودَ إليها بعدَ ساعاتٍ، وظلَّ عرفـاتُ كعادتهِ يستقبلُ كبارَ الزوارِ والوفودِ الدوليّةِ والمواطنين في مقرهِ المحاصر، وقدْ تجلى ذلكَ عندما منعتْ إسرائيلُ ياسر عرفات من السّفرِ إلى بيروتَ لحضورِ القمّةِ العربيّةِ في 26 آذار 2002م، لأنَّ شارون هدّدَ بأنّهُ لنْ يسمحَ له بالعودةِ إلى الأراضي الفلسطينيّة، رغم ذلك فإنَّ هذه القمّةَ أقرّتِ المبادرةَ السعوديّةَ للسلامِ مع إسرائيل، والتي أصبحتْ رسميًا المبادرةُ العربيةُ للسلامِ، والتي تعربُ عن الاستعدادِ العربيّ الجماعيّ لإقامةِ علاقاتٍ عاديّةٍ مع إسرائيل، بعدَ انسحابِها الكاملِ من الأراضي العربية المُحتلّة وإقامةِ الدولةِ الفلسطينية.
وردَّ شارون على مبادرةِ السلامِ العربيةِ، بإطلاقِ عمليةِ السّورِ الواقي، وفي مساءِ 29 آذار 2002م، أصدرَ مجلسُ وزراءِ إسرائيلَ قرارًا بإعادةِ احتلالِ مناطقِ السلطةِ الفلسطينيةِ، وتمّ استنفارُ قوّاتِ الاحتياطِ في الجيشِ الإسرائيلي، وفقًا لِما تقتضيهِ احتياجاتُ العملياتِ لإعادةِ احتلالِ الضّفةِالغربيّةِ، حدثَ ذلك في أعقابِ عمليّةٍ استشهاديّةٍ، نفذتها حركةُ حماسِ، في مدينةِ نتانيا الساحليةِ، في 27 آذار 2002م، قُتلَ فيها 34 شَخصًا وأُصيبَ 140 شخصًا بجروحٍ، ولمْ يفُتْ مؤتمرُ القمّةِ العربيةِ المنعقد في بيروت، إدانةُ هذهِ العملية في بيانِهِ الختاميّ، وكذا فعلَ مجلسُ الأمنِ الدولي، ووصفُ العمليّةِ بأنَّها عملٌ إرهابيٌّ خطيرٌ ومستهجنٌ أخلاقياً، وأنّها ضربةٌ موجّهةٌ إلى إمكانيّةِ التّعايُشِ السلميّ بين العربِ والإسرائيليين.
وبدأَ شارونُ هذهِ العمليةَ بقولهِ "مِنَ اليوم فصاعدًا فإنَّ إسرائيلَ تعتبرُ عرفات رئيسًا غير شرعيِّ لمنظّمةِ إرهابيّةٍ، وسأقومُ بعزلهِ كليًا في مقرّه" وقامتْ إسرائيلُ بملاحقةِ السّلطةِ الفلسطينيّةِ في كلِّ مناطقِها، في إطارِ عمليّاتِ مطاردَةٍ وتصفيةٍ واسعةِ النطاقِ ولا سابقَ لها، وأعلنَ شارونُ بِهذا عن انتهاءِ العملِ باتّفاقِ أوسلو، وتعليقِ كلِّ الاتّفاقاتِ مع السّلطةِ الفلسطينيّة، التي وقعتْ تحتَ رعايةِ الولاياتِ المتّحدةِ في البيتِ الأبيضِ، وهي التي ترعى الآن تمزيقها وإسقاطها.
كانَ الهدفُ الأوّل لهذهِ العمليةِ، هو حصارُ مقرِّ ياسر عرفات في المقاطعةِ برامَ الله، وفي ليلةِ 28- 29 آذار 2002م، اجتاحتِ القوّاتُ الإسرائيليّةُ مدينةَ رام الله بالكاملِ، واحتلّتْ كافّةَ مباني الـمقاطعةِ تقريبًا؛ وأطلقَ الجيشُ الإسرائيليُّ على هذه العملية إسمَ (الختيار)، بعدَ أنْ هدمتْ سورَهاالخارجيّ، واستخدمَ الجيشُ الإسرائيليّ السكانَ المحيطينَ بالمقاطعةِ دروعًا بشريةً ليحميَ تقدّمَهُ، واستشهدَ في الساعاتِ الأولى لهذا الاجتياحُ ستةُ فلسطينيين، وعند الساعةِالخامسةِ من صباحِ يومِ 29 آذار 2002م، حاصرتِ القوّاتُ الإسرائيليّةُ الرئيسَ عرفات ومعهُ 480 شخصًا داخل المقاطعةِ، وبدأَ الجنودُ والآلياتُ العسكريَّةُ الإسرائيليَّة، بإطلاقِ النارِ والقذائف في جميعِ الاتّجاهاتِ، وأكّدَ شارونُ إنَّ العمليّةَ ضدَّ عرفات ستستمرُّ لوقتٍ غير معلومٍ.
ومن مقرّهِ المُحاصَر، والذي قُطِعتْ عنهُ الـمياهُ والكهرباءُ، قالَ عرفات "هذا هو ردُّ إسرائيلَ على القمّةِ العربيّةِ التي تبنّتْ مشروعَ سلامٍ معها، وإسرائيلُ تريدُني قتيلًا أو أسيرًا، وأنا أقولُ لهم لا، سأكونُ شهيدًا، شهيدًا، شهيدًا، وأنَّ حياتي ليستْ أغلى منْ حياةِ أيِّ مواطنٍ فلسطينيّ بسيطٍ، أو منْ حياةِ أيِّ طفلٍ فلسطينيٍّ،"ووجّه نداءً إلى الشّعوبِ العربيّةِ والإسلاميّةِ، وإلى كلِّا المسيحيينَ في العالـمِ، حثّهُم فيهِ على الدفاعِ عن الأرضِ الـمُقدّسةِ، وفي اليومِ التالي هددتِ القواتُ الإسرائيليةُ عبرَ مكبراتِ الصوتِ بقصفِ المقاطعةِ، إذا لمْ يسلمِ الـمطلوبونَ داخلَ الـمقرِّ أنفسَهُم خلالَ ربعِ ساعةٍ، وهم خليّةُ الجبهةِ الشعبيّةِ لتحريرِ فلسطينَ الذين قتلوا الجنرال رحبعام زئيفي، انتقامًا لمقتلِ أبي علي مُصطفى الذي اغتيل يوم 27 آب 2001م، وفؤاد الشّوبكي المسؤول الماليّ لحركةِ فتح المتهمُ بتمويلِ شراءِ سفينةِ الأسلحةِ كيرن أيه، وآخرون من كتائبِ شهداءِ الأقصى"، وخرجَ أرئيل شارون إلى الإعلامِ قائلًا: "أريدُ أنْ أقولَ لكمْ بأنّهُ في هذهِ اللحظاتِ تتواجدُ قواتُ[جيشِ الدّفاعِ الإسرائيليّ] في مقرِّ المُقاطعةِ مركزِ سلطةِ عرفات في رام الله، وإسرائيلُ ستعملُ على إخضاعِه، لأنَّهُ المسؤول عن الإرهابِ الفلسطينيّ، وشكّل إئتلافًا إرهابيًا ضدَّ إسرائيل، وهو عدوٌ حقيقيٌّ لنا في هذهِ المرحلةِ لذا سيتمُّ عزلهُ."
لقدْ عاشَ عرفاتُ ظروفاً صعبةً داخلَ المقرِّ المحاصرِ، على مدارِ 34 يومًا أمضاها دونَ ماءٍ أو دواءٍ، وفي أغلبِ الأحيانِ دونَ كهرباءٍ، ولكنْ رغمَ الحصارِ وجميعِ العقباتِ الجغرافيّةِ، نجحَ في ممارسةِ سُلطةٍ شبهِ مُطلقةٍ في الضّفةِ الغربيّةِ وقطاعِ غزّة، مما اضطرَّ الحكومةَ الإسرائيليّة، في 1 أيار 2002م، إلى إنهاءِ حصارِها المشدّد على عرفات، وإبقائها على الحصارِ الذي بدأتهُ في كانون الأول 2002م، حولَ رامَ الله.
زيارةُ وزيرِ الخارجيةِ الأمريكي كولن باول
نزلَ ياسر عرفات منْ مخدعِه المحصّنةُ نوافذُه بالأكياسِ الرّمليةِ، وبراميلَ الحديدِ المعبأةِ بالإسمنت، لإستقبالِ وزيرِ الخارجيةِ الأمريكيّ، الذي دخلَ إلى المُقاطعةِ وسطَ الدباباتِ الإسرائيليّةِ المحيطةِ بها من كلِّ جانبٍ، وكانَ ذلكَ ظهيرةَ يومِ 17 نيسان 2002م، وبعدَ أيامٍ قليلةٍ من الكشفِ عن مجزرةِ مخيمِ جنين، فبادرَ الرّئيسُ عرفات بالسلامِ على كولن باول قائلًا لهُ أهلًا وسهلًا بالجنرالِ، إنَّ لقاءَنا اليومَ هو لقاءُ جنرالٍ لجنرالٍ، ابتسم كولن باول في وجهِ الرّئيسِ وعيناهُ فيها لمعةً من شماتةِ وأسىً، وقدْ وافقَ بإيماءةٍ من رأسهِ بأنّهُ موافقٌ على هذهِ الصّيغةِ العسكريّةِ للقاءِ، بعدَ أنْ تقابلَ الرجُلانِ على طرفي الطاولةِ المُستطيلةِ في المقرِّ الرئاسي المُهشّمِ، قالَ ياسر عرفات لكولن باول، يا سيادةَ الوزيرِ هل أنتَ راضٍ عن ما حدثَ في جنين؟ هنا ابتسمَ كولن باول، قائلًا للرّئيسِ: يا سيادةَ الرّئيسِ قبلَ قليلٍ عندَ استقبالكَ لي على البوّابةِ قلتَ لي بأنَّ لقاءَنا هذا لقاءُ جنرالٍ لجنرالٍ، وأنا أودُّ أنْ أخبِركَ بأنَّ الآلةَ العسكريّةَ عندما تتحرّكُ فإنَّ الجنرالاتِ لا يتحدّثونَ عن الخسائرِ، بلْ عن النّتائجِ، ويتركون أمرَ الخسائرِ للجهاتِ المختصّةِ بالإحصائياتِ، عندها صمتَ الرّئيسُ صمتًا مُحزِنًا، وأدركَ بأنَّ كولن باول هو مبعوثُ شارون، وليسَ وسيطُ سلامٍ، وقبلَ أنْ يستغرقَ الرّئيسُ عرفات في شرودهِ رنَّ هاتفَ كولن باول المحمول، وكانَ شارونُ على الخطِّ المقابلِ، وسألَ كولن باول عن ماذا يا ترى؟ هل سألهُ عن نتيجةِ حوارهِ مع عرفات؟ لا، بلْ سألهُ عن نوعيةِ السّمكِ الذي يفضّلهُ على الغداءِعندما يصلُ إلى بيتِ شارون في النّقبِ، لقدْ كان هذا الاتصالُ الذي سمعهُ كلَّ الحاضرين للاجتماعِ، والذي أخذَ من وقتِ لقاءِ عرفات كولن باول سبعةَ دقائقٍ، مرسخًا لقناعةِ الرّئيسِ عرفات بالخُسرانِ المُبين، في معركتهِ الثّانيةِ ولرُبّما النهائية مع شارون.
أضطرَّ عرفات أمامَ كولن باول الاستعاضةَ عن هذهِ الخسارةِ بالعودةِ إلى الشّعاراتِ، وأكّدَ للوزيرِ وبكلماتٍ شديدةِ الوضوح، إنَّهُ في حالِ اقتحامِ الإسرائيليين للـمقرِ فإنّهُ سيموتُ شهيدًا، ولنْ يسمحَ لهم باعتقالهِ أو طردِهِ، لكنّ ذلكَ لمْ يغيرْ من نتيجةِ هذهِ الجلسةِ التي استمرتْ لمدّةِ ثلاثِ ساعاتٍ أيَّ شيءٍ، وهو الفشلُ الذّريعُ في إحداثِ أي تقدّمٍ، أو إنجازِ أيّةِ استجابةٍ أمريكيّةٍ لمطالب عرفات برفعِ الحصارِ عنهُ، وإخراجِ الجيشِ الإسرائيليّ من الضّفةِ الغربيةِ، وكذا كانتْ نتيجةُ اللقاءِ الثّاني بينهما والذي عُقدَ بعدَ ثلاثةِ أيامٍ من انفضاضِ الأوّلِ.
وغداةَ هذا اللقاءِ، وصفَ الرّئيسِ الأمريكي (جورج بوش) رئيسَ الوزراءِ الإسرائيليّ (شارون) بأنّهُ رجلُ سلامٍ، متهمًا عرفات بأنّهُ المسؤولُ الوحيدُ عن الوضع الذي هو فيه، أمّا في العالـمِ العربيّ فقدْ ارتفعتْ مكانةُ عرفات بشكلٍ كبيرٍ بسببِ الحصارِ الذي فرضهُ عليهِ شارون، كما كانَ الحالُ أثناءَ حصارهِ في بيروت وطرابلس، وتضاعفتْ مظاهراتُ التأييدِ لهُ من الـمغربِ إلى البحرين، وفي الجانبِ الفلسطينيّ ارتفعتْ شعبيّتهُ مجددًا إلى أعلى المستوياتِ و ساندهُ الجميعُ، بدءًا من الشيخِ أحمد ياسين إلى الـمُعارضين اليساريين، حتّى أنَّ إدوارد سعيد، الذي ابتعدَ كثيرًا عن عرفات وجافاهُ لـمدّةٍ طويلةٍ من الزّمنِ، قال "في هذه اللحظةِ، نحنُ جميعًا وراءَ عرفات".
وواصلتْ قوّاتُ الاحتلالِ الإسرائيليّ تدميرَ الـمباني داخلَ الـمقاطعةِ، وعبّرَ مجلسُ الأمنِ الدّولي التابعُ للأممِ الـمتحدةِ عن قلقهِ الشّديدِ على سلامةِ الرئيسِ عرفات، وفي اليومِ نفسهِ أقامَ الجيشُ الإسرائيلي حولَ مقرِّ الرئيسِ سياجًا ثلاثيّ الطبقاتِ من الأسلاكِ الشّائكةِ، وعزّزهُ بجدارٍ من حطامِ السياراتِ والأنقاضِ وأكياسِ الرملِ، وأحاطتِ الدبّاباتُ الإسرائيليةِ بالـمبنييْن الـمتّصليْن ببعضهما البعضِ بوساطةِ جسرٍ، حيثُ يوجد الـمحاصرون، مصوِّبة مدافعَها إلى نوافذِهما، في هذهِ الأثناءِ ناشدَ وزيرُ الخارجيّةِ السّعودي الأميرَ سعود الفيصل، الإدارةَ الأميركيّة بأنْ تعملَ على رفعِ الحصارِ.
وفي هذهِ الأثناءِ أيضًا، واستجابةً لمجموعةٍ غيرِ محدودةٍ من الضّغوطِ الفلسطينيّة والعربيّة، كانَ عرفات يستعدُ لدفعِ الثّمنِ المطلوبِ منهُ للخروجِ من غُرفِ المقاطعةِ، فأطلقَ مبعوثيه إلى الولاياتِ المتحدةِ يحملونَ رسائلَ الموافقةِ على:
1- صرفِ النظرِ عن مجزرةِ مخيمِ جنين، والتوقّفِ عن المُطالبةِ بإرسالِ لجانِ تقصّي الحقائقِ إلى جنين.
2- التوقفُ عن دعمِ الإرهابِ، وتمويلِ شراءِ الأسلحةِ للمجموعاتِ الفلسطينيةِ المسلحةِ.
3- محاكمةُ قتلةِ رحبعام زئيفي، ووضعهمْ في عهدةِ سجّانين بريطانيين وأمريكان في (سجنِ أريحا).
وفي اليومِ نفسه، وصلَ حملةُ الرسائلِ الفلسطينيون إلى الخارجيّةِ الأمريكيّة، تم نقلُ قتلةِ زئيفي من نابلسَ إلى رامَ الله، بتنسيقٍ وثيقٍ مع الاتّحادِ الأوروبيّ والولاياتِ الـمتّحدة، وجرتْ محاكمةُ المتّهمين في الـمقاطعةِ أمامَ ثلاثةِ ضباطٍ من الـمحكمةِ العسكريّةِ الفلسطينيّةِ، وذلكَ في يومِ 25 نيسان 2002م، وهم:
أحمد سعدات، وعاهد أبو غلمه، ومجدي الريماوي، وحمدي القرعان، وباسل الأسمر، أحكامًا تتراوحُ ما بينَ عشرة إلى ثمانيةِ عشرَ عامًا، بتهمةِإغتيالِ وزيرِ السّياحةِ الإسرائيليّ رحبعام زئيفي، وفي أعقابِ ذلكَ وافقَ الجانبانِ الفلسطينيّ والإسرائيليّ على اقتراحٍ أمريكيٍّ يقضي برفعِ الحصارِ عن عرفاتَ ، مقابلَ وضعِ المتهمين باغتيالِ زئيفي في (سجنِ أريحا) تحتَ حراسةٍ أمريكيةٍ وبريطانيةٍ، وفي يومِ 1 أيار 2002م تمَّ نقلُ المتّهمين الستّة إلى (سجنِ أريحا) بإشرافٍ أمريكيٍّ بريطانيٍّ، بعدَ ذلك تمَّ رفعُ الحصارِ عن عرفاتَ.
وكانتْ محاكمةُ هؤلاءِ الرّجالِ هي أَحدُ الشروطِ التي فرضَها شارون لرفعِ الحصارِ عن الـمقاطعةِ، ومع ذلكَ عمدتْ إسرائيلُ إلى تجاهلِ الـمُحاكمةِ في رامَ الله، وما لبثتْ أّن طالبتْ بتسليمِها الـمتّهمين لتقديمهمْ إلى الـمُحاكمةِ لديها، وبعدَ ضغوطٍ من وليِّ العهدِّ السعوديِّ الأمير عبد اللهِ بن عبد العزيز، طلبَ الرّئيسُ الأميركي جورج بوش من شارون رفع الحصارِ عن عرفاتَ، لكنَّ شارون ماطلَ واضطرَّ للإستجابةِ بعدَ تهديدِ مستشارةِ الأمنِ القوميِّ الأميركيِّ كوندوليزا رايس لهُ بعواقبَ رفضهِ لطلبِ بوش، فانسحبَ الجيشُ الإسرائيليُّ من المُقاطعةِ ليلةَ 1- 2 أيار 2002م، بعدَ تفجيرِ آخرِ مبنىً فيها، فخرجَ عرفات من مدفنهِ بين أطلالِ المقاطعةِ ليشتمَ الجنودَ الإسرائيليين، ووصفهُم بأنَّهُمْ إرهابيون ونازيّون، لكنَّ الحصارَ لمْ يُرفعْ عنهُ بشكلٍ كاملٍ، فقدْ حَظرَ شارون عليهِ مغادرةَ الأراضي الفلسطينيّة، إلا إذا قرّرَ عدمَ العودةِ إليها.
بعدَ شهرٍتقريبًا، عادَ الجيشُ الإسرائيليّ لاجتياحِ رامَ الله مجددًا، في إثرٍ عمليةِ مجدو التي تبنّتها حركةُ حماس في أيار 2002م، وهاجمَ الجيشُ الإسرائيلي مقرَ عرفات بوحشيّةٍ، ولمْ تسلمْ من الرصاصِ غرفةُ نومِ عرفاتَ، الذي لمْ يُصبْ بأذىً، لكنَّ أحدَ حرّاسهِ استشهدَ وأصيبَ سبعةٌ آخرون، كانتْ ضغوطُ شارونَ هذهِ على عرفاتَ، تتمُّ بمعرفةِ بوش وفريقِ الصّقورِ في إدارتهِ وهم نائبهُ ديك تشيني، ووزيرُ الدّفاعِ دونالد رامسفيلد، ونائبهُ بول وولفيتز، وهكذا وجدَ عرفاتُ نفسهُ بعد يومِ 24 من نفسِ الشهرِ أمامَ حربٍ صريحةٍ عليهِ من قِبلِ الرّئيسِ الأمريكيّ، ودعا بوش في خطابِهِ في ذلك اليومِ إلى تشكيلِ قيادةٍ فلسطينيّةٍ جديدةٍ ومختلفةٍ، الأمرُ الذي فسّرَهُ المراقبونَ على أنَّهُ دعوةٌ إلى رحيلِ عرفات عن منصبِهِ، وردَّ عرفاتُ في اليومِ التالي بقولِهِ بأنَّ الفلسطينيين وحدَهُم أصحابُ الحقِّ في اختيارِ قادتِهم.
وعلى الأرضِ تدهورتِ الأَوضاعُ أكثر، وأفشلَ شارونُ بزيادتِهِ لحدّةِ عنفِ ووحشيةِ العملياتِ العسكريّةِ، مساعيَ عرفات لتثبيتَ وقفِ إطلاقِ النّارِ من جانبِ الفلسطينيين، وفي 19 أيلول 2002م، عادَ الجيشُ الإسرائيليّ ليحتلَ المقاطعة للمرّة الثّالثة ولمدّة ستةِ أيامٍ، وقصفَ مبنى الرّئيس بالمدفعيّة، وزادتْ إسرائيلُ من ضغوطِها وطلبتْ من عرفات تسليمَ 20 من المطلوبين لها، من الذين كانوا داخلَ المقاطعةِ، فرفضَ عرفات هذا الأمرُ، وأصدرَ قائدُ القوّةِ الإسرائيليةِ المُحاصِرة للمقاطعةِ أمرًا بإخلاءِ المقرّ فورًا، محذّرًا من أنَّ انفجارًا هائلًا سيقعُ فيها، وطلبَ من سكّانِ المنطقةِ المُحيطةِ بالمُقاطعةِ مغادرةَ بيوتهِم، وفجأة أنفجرَ غضبُ المواطنين، وتحدّى الآلافُ من سكانِ رامَ الله والبيرة، ومخيّماتِ المِنطقةِ وقُراها حظرَ التجوّلِ، وتوَجّهوا في تظاهراتٍ حاشدةٍ نحوَ مقرِّ عرفات، وفتحتْ قواتُ الاحتلالِ نيرانَها، فقتلتْ اثنين من المتظاهرين وجرحتِ العشرات، وواصلَ المتظاهرون طريقهمْ وهم يهتفون، بشعاراتٍ مؤيّدةٍ لعرفات وانتشرتِ التظاهراتُ ليخرجَ عشراتُ الآلافِ في مُدنِ الضّفةِ الغَربيّةِ وقِطاعِ غزّة، دعمًا للرّئيسِ المُحاصرِ، وامتدّتِ التظاهراتُ إلى خارجِ الأرضِ المُحتلة خاصّة في مخيماتِ اللجوءِ في لِبنان، وخرَجَ عرفات لتحيةِ الجماهيرِ أَمامَ مَقرهِ المُدَمَّر.
لكن شارون الذي طاردت طائراته الرئيس "ياسر عرفات" في بيروت عام 1982م وفي حمام الشط في تونس عام 1986م، ولم يفلح في قتله، اتيحت له الآن فرصة ثمينة للإجهاز على عرفات ومحاسبته على تفجيره للثورة الفلسطينية وإطلاقه لانتفاضة الأقصى؛ فتم له ما أرد، وهكذا يمكن القول: بأن انتفاضة الأقصى توقفت فعليا مع استشهاد الرئيس ياسر عرفات في عام 2004م.
يستنتج من كل ذلك، إنّ خيباتِ الشّعبِ الفلسطينيّ المتواصلةِ بلا توقّف، هيَ كارثةٌ سياسيّةٌ وتاريخيّةٌ كُبرى أنشأتها القيادةُ السياسيّة التي يسوقُها القدرُ لتتحكّمَ بمصيرِه، ولعلَّ هذه الحالة تقودُنا إلى الأخذِ بعينِ الاعتبارِ ما قالَه الرّئيسُ العراقيّ الرّاحل صدّام حسين، للكاتبِ مُحمّد حسنين هيكل، في بدايةِ مقابلةٍ لهيكلَ مع صدّام، وقد ودّع أمامَهُ وفداً من منظّمةِ التّحرير الفلسطينيّة، بقيادة ياسرعرفات حيثُ قال صدّام لهيكل "هؤلاءِ قومٌ أصغرُ بكثيرٍ من قضيّتِهم".
إنَّ انعتاقَ الشّعبِ الفلسطينيّ من هذهِ اللعنةِ، يكمنُ في اختيارِ قيادةٍ سياسيّةٍ ووطنيّةٍ على مستوى التحدّي التاريخيّ، على أن تجعلَ من ارتباطِها بأجندةِ الآخرين أمراً ثانوياً وليس العكس، لقد استنتجَ دارسو تاريخِ الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، بأنّ معظم الزّعماءِ الفلسطينيين كانوا دائماً، تحت المُستوى المطلوب، لشعبٍ يستحقُّ قيادةَ أفضلَ تتناسبُ مع علوِّ كعبِه بين الأمم.
* باحث ومؤرخ فلسطيني