الخميس: 18/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

الصحفيون ينجون من القتل فيقبعون في السجون

نشر بتاريخ: 23/01/2020 ( آخر تحديث: 23/01/2020 الساعة: 17:57 )

الكاتب: نضال منصور

ما تزال حرية الإعلام تشهد انتكاسات متوالية في العالم، ولم تسلم منها حتى الدول التي تُصنف بأنها ديمقراطية، وما يزال الصحفيون يتعرضون في كل بقاع العالم لانتهاكات متعددة تُعرّض حياتهم للخطر، وبعضهم يذهب ضحية إصراره على ممارسة مهنته باستقلالية.

لم يُخفِ تقرير "مراسلون بلا حدود" لعام 2019 الذي صدر مؤخرا المشهد الصعب الذي تمر به الحريات الإعلامية، ولهذا يعترف في تقريره الأخير "وتيره الكراهية ضد الصحفيين تصاعدت إلى درجة جعلتها تبلغ حد العنف، الأمر الذي أدى إلى تنامي الشعور بالخوف، حيث تتقلص دائرة البلدان التي تعتبر آمنة ويمكن للصحفيين ممارسة مهنتهم بحرية وأمان في وقت تُشدد الأنظمة المستبدة قبضتها على وسائل الإعلام أكثر وأكثر".

الخارطة التي وضعتها "مراسلون بلا حدود" لحالة الإعلام عالميا تؤشر بشكل جلي ولا يحمل اللبس إلى الأزمة؛ فمن بين كل دول العالم اعتبرت أن 8 بالمئة فقط تعيش وضعا يمكن أن يُطلق عليه جيد وميزته باللون الأبيض، في حين وبالمقابل فإن 11 بالمئة من مساحة العالم تعيش وضعا خطيرا جدا بحرية الإعلام، ولهذا وشحت خارطتها باللون الأسود، و16 بالمئة تعاني من مشاكل ملحوظة أبرزت باللون الأصفر، وأعطى اللون البرتقالي للدول التي تعاني ما سمي وضعا إشكاليا وبلغ 37 بالمئة، واعتبر ما ظُلل باللون الأحمر لدول تعاني وضعا صعبا وامتد ليصل إلى 29 بالمئة.

الدلالات الرمزية لخارطة الألوان تظهر الواقع المقلق لحالة الإعلام على امتداد الكرة الأرضية، ولهذا لم يتوانَ الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود" كريستوف ديلوار من تشبيه الوضع بـ "حرب أهلية يذهب ضحيتها الصحفيون".

ويقول في التقرير السنوي لعام 2019 "إذا انحرف النقاش السياسي بشكل خفي أو جلي نحو جو أشبه بالحرب الأهلية، حيث يعد الصحفيون من ضحاياها؛ فإن النماذج الديمقراطية تصبح في خطر كبير".

رغم هذه السوداوية والتشاؤمية التي تطغى فإن التقدم اللافت الذي أضاءت عليه لجنة حماية الصحفيين في نيويورك في بداية هذا العام أن عدد القتلى الصحفيين في عام 2019 سجل أعلى نسبة تراجع منذ 17 عاما، فلم يقتل سوى 25 إعلاميا، وهو أقل رقم سُجل منذ عام 2002 إذ بلغ عدد الضحايا 21 صحفيا.

حسب مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود" الذي يرصد 180 بلد، فإن النرويج تتربع على عرش حرية الصحافة، تليها فنلندا ثم السويد وهولندا، وتتذيل قائمة الدول في التصنيف الأسوأ تركمنستان حيث تحتل المرتبة 180 وقبلها كوريا الشمالية 179، وأرتيريا 178، والصين 177.

لا تبدو نتائج مؤشر حرية الإعلام تحمل مفاجئات. فالدول الاسكندنافية تواصل احتفاظها بالصدارة كبيئة حاضنة وداعمة للإعلام، في حين تُظهر أكثر الدول تراجعا في مؤشراتها، وهذا غير محصور بالشرق الأوسط الذي يعد البيئة الأكثر خطرا لممارسة العمل الصحفي، وإنما يمتد الأمر لتراجع ملحوظ في أميركا وبعض بلدان أوروبا أيضا.

تقرير لجنة حماية الصحفيين "CPJ" يكشف النقاب عن 250 صحفيا يقبعون بالسجون حول العالم عام 2019، ويقر أن "الحكام المستبدين لم يُظهروا أدنى دلائل لتخفيف القمع".

ويُشير تقرير "مراسلون بلا حدود" إلى ارتفاع غير مسبوق بدرجات العنف الموجه للصحفيين، ويعطي مثالا حيا لما تواجه وسائل الإعلام في فرنسا حين تغطية مظاهرات "السترات الصفراء"، فيقول" أصبح مراسلو بعض القنوات لا يجرؤون على إظهار شعار أو علامة المؤسسة الإعلامية التي يعملون لحسابها، بل هناك من اضطر للاستعانة بحراس شخصيين للتمكن من تغطية المظاهرات".

ثورة تكنولوجيا الاتصالات تهزم الحكومات المُستبدة وتُعلي أصوات الناس المخنوقة
وينوه التقرير أيضا إلى شيوع ما يستخدم ضد الصحفيين الاستقصائيين ويسمى "إجراءات الإسكات" ويتلخص برفع دعاوى قضائية تُنهكهم ماليا وتدفعهم في نهاية المطاف للسجن".

إذن ملخص حال الصحفيين من ينجو من القتل فإنه قد لا يفلت من السجن، أو للكثير من الانتهاكات والضغوط التي عمت دول العالم، وفي كل الأحوال فإن وسائل الإعلام تتعرض لخطاب كراهية وحض على العنف ضدها، وهو ما يجعل الإعلاميين يعيشون الخوف بشكل يومي.

لا نُذيع سرا حين نكتب أن العالم العربي ربما يعد من البيئات الأكثر خطرا على وسائل الإعلام والصحفيين، ونادرا ما نجد دولة عربية تقدم نموذجا رياديا في حرية الإعلام، ومؤشر "مراسلون بلا حدود" لم يصنف سوى ثلاث دول احتلت مراتب أقل من المئة وهي جزر القمر، وتونس وموريتانيا، أما ما تبقى من دول فغالبيتها يقبع في مؤخرة المؤشر بلا تقدم مع مر السنوات الماضية.

وتسع دول عربية يصف مؤشر حالة الحريات الإعلامية الوضع فيها بالخطير جدا، وثماني دول وضعها صعب، وأربعة تعاني من مشاكل ملحوظة، ودولة واحدة اعتبر وضعها جيد.

حين يجري الحديث عن قتل الصحفيين واختطافهم وترهيبهم فإن الأنظار تتجه دائما إلى الشرق الأوسط وخاصة العالم العربي، فهو عدا عن الحروب والصراعات الأهلية التي ابتلي بها تتحكم بمقاليد السلطة في معظم الدول أنظمة مستبدة لا تتعايش مع إعلام مستقل، وتعمل على إخضاعه لقبضتها ليكون بوقا لها.

تتسابق الحكومات العربية في غالبها لتكذيب التقارير الوطنية والدولية التي ترصد الانتهاكات التي تقع على الصحفيين، وتسرد المشكلات المُتفاقمة التي يُعاني منها وسائل الإعلام، ولا يُبادرون كثيرا بالتحرك الجاد لتذليل وحل المُشكلات.

منذ عقود طويلة قُتل الصحفي اللبناني سليم اللوزي، وقُطّعت أصابع يديه وأفلت القتلة الذين أرعبوا الصحفيين من العقاب، وهكذا تمر الصحافة في العالم العربي بويلات دون مُحاسبة ومُساءلة من تسببوا بهذه الكارثة.

تراجعت حالات قتل الصحفيين في العالم العربي عام 2019 بعد اندحار تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتراجع مخاطره، وتقلص دائرة المعارك في سوريا؛ إلا أنها ما تزال البؤرة الأكثر خطورة لاختطاف الصحفيين واختفائهم قسريا، وحتى الآن لا تتوفر معلومات كافية عن تداعيات موجة الربيع العربي الثالثة على الإعلاميين في كل من الجزائر، والسودان، والعراق ولبنان.

تُحيل الحكومات العربية التشريعات المُتعلقة بالإعلام لتُصبح "حقول ألغام" تُهدد الصحفيين وتُعيق حركتهم؛ فالقوانين لم تعد أداة للتنظيم وتوسيع هوامش الحريات، وإنما أدوات للتقيد وقمع حرية التعبير.

والأمر لا يقتصر على مُحاصرة الصحافة المُحترفة؛ بل يمتد لوأد منصات التواصل الاجتماعي لكبت كل الأصوات المُستقلة في المجتمع، فالسلطة لا تتسامح مع الآراء المُخالفة، ولا تُريد لها أن تظهر، والحقيقة التي تُرعبهم أن ثورة تكنولوجيا الاتصالات تهزم الحكومة المُستبدة، وتُعلّي أصوات الناس المخنوقة.

لا يُنظر للصحافة المُستقلة باعتبارها حق للمجتمع، وركيزة في المجتمعات الديمقراطية لا غنى عنها لضمان الوصول للمعلومات؛ بل يجري شيطنة الصحفيين واتهامهم بالتآمر على الدولة، وتُضيّق أجهزة الأمن الخناق عليهم، فلا يجدون سوى خيار المواجهة ودفع الثمن، أو الانضمام لجوقة المُطبلين للحكم، أو السكوت والصمت، وحتى الهجرة والرحيل.

في العالم العربي ـ باستثناءات قليلة ـ الإعلام "ملف أمني" لا تفريط فيه ولا مساومة على ذلك، والدول التي لا ينطبق عليها هذا الحال لا يُفلت الإعلام فيها من سيطرة وترهيب المليشيات المُسلحة والأحزاب ورجال الأعمال.

حين بدأت عملي الصحفي بالكويت في منتصف الثمانينيات من القرن المُنصرم التقيت بفنان الكاريكاتير الأشهر ناجي العلي، وكان يتعرض لضغوط ومضايقات من أطراف مختلفة أجبرته على حزم حقائبه والرحيل إلى لندن لعلّه يجد الأمان على حياته ومساحة أفضل ليبوحَ بالحقيقة؛ لكن رصاصات الغدر لم تمهله، قتلوا ناجي، فقتلوا "حنظلة" الضمير العربي الحيّ ولاذوا بالفرار.

وحتى الآن رغم مرور سنوات طويلة يُفلت قتلته الذين تعددت وجوههم ومسمياتهم من العقاب، وما زلتُ منذ ذلك الحين أرى البقعة السوداء تمتد في أفقنا، وما زلتُ أنتظر أن تُشرق شمس الحقيقة لعلّنا نُنصف روح ناجي، وأرواح مئات الصحفيين الذي ذهبوا ضحايا، وما زالت يد العدالة لم تصل لقتلتهم.