الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

حاضِناتُ الأَعمالِ.. فُرَصُ اسْتِثْمارٍ تَنْتَظِرُ رُوادَها

نشر بتاريخ: 15/09/2019 ( آخر تحديث: 15/09/2019 الساعة: 16:55 )

الكاتب: صخر سالم المحاريق

على غير ما جرت بي العادة، والتي تَعّوَدْتْ في ما أكتب، سأبدأ مقالتي هذه المرَّة ببيت من القصيد لابن المعتز، والذي يمزج فيه ما بين الحسرة، واللوعة، والبكاء على الفُرَصْ، حينما قال:“كم فُرصَّة ذَهَبَتْ فعادَت غَصَّةً ... تُشجي بطُولِ تَلَهُّفٍ وَتَرَدُّدِ”، وسأردف قوله بكلمات لسَيِدَةِ الأَعمال، والإعلامية الأمريكية الشهيرة "أوبرا وينفري"، حين وَصَّفتْ الحظ بأنه “التقاء التحضير والاستعداد الجيد مع الفرصة”، فالحظ ما هو إلا فُرصَّة، تقرع بابك فسارع إلى اغتنامها، لأن الفُرَصْ بمثابة نوافذَ مؤقتةٍ للوقت، أنت فقط من يتحكم بطول بقائها مفتوحة، إذا ما قُمْتَ بِتَلَقُفِها واستغلالها بالشكل المثالي، فهي سريعة الفَوْتْ، بطيئة العَوْدْ كما أثبتت الشواهد، والتي توافق ما قاله القائل جملةً وتفصيلاً.
ولست هنا في طرحي هذا بصدد الترويج لحاضنات الأعمال ومُشغليها، فالدورُ ليس دوريَّ المباشر، بل دور العاملين فيها، فالحديث عنها هو من باب الاختصاص في التنمية المستدامة لا أكثر، والوَعْيِّ التام بحقيقةِ وأَهميةِ ما أكتب في هذا المجال، وما كتب غيري فيه أيضاً، وكنوع من الدعمِ والمساندةِ لجهود التنمية أيًّ كان شكلها، ودفعاً منا جميعاً باتجاهها "كمسؤوليةٍ وطنيةٍ" هي بمثابةِ المسؤوليةِ من الجميعِ والكلِ الفلسطيني، "فحاضنات الأعمال"؛ هي بمثابة محرك من محركاتِ "التنمية الشاملة" بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، لمن يَقرأْ ويُتابعَ نشاط هذه الوحدات الاقتصادية التنموية، والموجهة حكومياً وأهلياً وفي شكلها الخاص في مختلف البلدان المتقدمة، وكذلك التي لَحِقَتْ فيما بعد بِرَكبِ التنمية المستدامة، كسبيل لعلاج العديد من الظواهر، والتي طرأتْ كالصَّدأْ على هياكل المجتمعيات، وخاصة الاقتصادية ذات الأبعاد الاجتماعية، ومنها البطالة والفقر والتهميش والعوزْ.
وإني أعتبر شخصياً "حاضنات الأعمال" فُرَصّ استثمارٍ ضائعة ولا زالت تراوح مكانها، تنتظر رُوادها ومُقتنصيها ليس ضعفاً فيها، وإنما جهلاً منا بأهمية هذه الوحدات الاقتصادية الوَلادَةِ للمشاريع والأعمال في مختلف المستويات وفي مختلف المجالات أيضاً، والقادرة على صناعة المجتمع الاقتصادي المتقدم والفعال، ولأجل المزيد من التوضيح عزيزي القارئ الكريم؛ أود التذكير بمفهوم "حاضنة الأعمال" وأهميتها كأداة للتنمية البشرية والاقتصادية، افتراضاً مِني واعتقاداً بعدم عِلم الجميع بفحوى عملها ونشاطها محلياً وعالمياً، وكنوع من التوضيح في عدم معرفتها، أو السماع بها من قبل إذا ما كانت للوهلةِ الأولى، "فحاضنات الأعمال": “هي بمثابة إطار أو أماكن لتفريخ (المشاريع الناشئة والصغيرة من وَحْيِ الفِكْرَةِ إلى جَنْيِ العِمْلَةِ)، بحيث تُصْقَلُ فيها وتُنَّمى (المهارات الادراكية، والادارية، والفنية، والتسويقية، والمالية)، والتي تلزم كل صاحب مشروع لأجل بداية موفقة في انطلاقه الأول في عالم الأعمال، وليس هذا فحسب؛ بل وتقوم بحسن اختيار وتوفير كافة موارد عملية البدء لأجل الإنتاج السلعي أو الخدمي المثالي، وأهمها (رأس المال المبدئي أو البادئ) كما هو معروف عالمياً، والذي تُقَدِمه بنفسها في هيئة تمويل جزئي أو كلي”، فهي بمثابة "المُسْتَثْمِرِ المَلاكْ" فيك أَنتْ كفرد ينوي أن يكون في مصافِ رجالِ الأعمالِ المرموقين، ويمتلك الكفاءةَ والفعاليةَ لذلك، سواءً كُنتَ في مقتبل العمرِ أو آخره، صبياً أو حتى شيخاً ورجلاً أو أنثى، فهي فقط تعتمد "تَذكَرَةَ دخولٍ واحدة" هي (الفكرة الابداعية)، إضافة إلى جَوازِ سفرٍ يتمثل في (الإرادة، والقرار، والعمل)، ثم العمل ثم العمل عليها، لتَبْزُغَ النور من بَيْضَةِ التفريخِ حتى الديكْ المسموع صِياحَهُ في عالم المال والأعمال.
ولكن بالرغم من هذا كُلِهْ لا زالت "حاضنات الأعمال" تفتقد للبوصلة، والمتمثلة بالحاضنة الشعبية الفعالة والواعية بها والمروجة لها ثقافياً، والتي ستساعدها في الوصول لأهدافها، والمتمثلة في أهدافِ وأحلامِ وأفكارِ رُوادِها، بالرغم من نجاعة ونجاح دورها عالمياً وقطعها لشوط كبير في مجالات التنمية المختلفة، نتيجةً لما تلاقيه من دعمٍ ومساندةٍ حكوميةٍ وشعبية، وكذلك أيضاً من القطاع الخاص المتمثل في شركاتِ الأعمال الكبرى والمتوسطة، لأهمية هذه الحاضنات في تعزيز المشاريع الصغيرة وبناء منظومتها، والتي تعتبر عماد أي اقتصاد بحيث تمثل ما نسبته (80-90%) من ناتجه المحلي، فمثلاً تعتبر "حاضنات الاعمال" في واد السيليكون في الولايات المتحدة مرابض الأعمال الرئيسية لأشهر رواد الأعمال اليوم، والحاضنات الولادة لأمثال جوبز، وبيل قيتس، وزوكربيرغ .. والقائمة تطول، فهي تلاقي دعماً ومساندةً من كلا القطاعين العامِ والخاصْ، بل ويتعدى الأمر ذلك في أن كونها بمثابة دائرة أو قسم في المؤسسات العامة والخاصة شأنها شأن دوائر الجودة، والتطوير، والبحث العلمي، ومقياساً ومؤشراً على مدى فعالية هذه المؤسسات واستدامة أعمالها وإسهاماتها المجتمعية.
ومن هنا أُوَجِهُ رسالتي هذه إلى أصحابِ القرارِ في مُختلفِ المُستوياتِ الإداريةِ وفي المؤسسات كافة، ممن هُمْ على تماسٍ مباشرٍ بالعمليةِ الاقتصاديةِ واستدامتها، كوزارات الاقتصادِ، والعملِ، والتعليمِ، والريادةِ، والتنميةِ، والزراعة، والشركاتِ بمختلف تشكيلاتها القانونية، والبلدياتِ، والغرفِ التجاريةِ، والمؤسساتِ التعليمية، والجمعياتِ غير الحكوميةِ وغير الربحية، عبر توجيه تساؤُلٍ لهم جميعاً، بالقولِ لِماذا لا تكون "حاضنات الأعمال" دوائر وأقسام في مؤسساتكم؟ شأنها شأن مراكز البحث العلمي والتنمية، لِماذا لا تكون شرطاً للتمويل؟ في حال وجودها ضمن المؤسسات الراعية للتنمية، وأن يكون مقياس عملها وجدوى ذلك، مدى فعاليتها في مشاريع ناجحة ومطبقة تصنع " قَصَصْ للنجاح"، لماذا لا تكون "حاضنات الأعمال" جزء من البلديات وترخص جمعيات ومؤسسات ومراكز وطنية باسمها؟ أما السؤال الآخر فهو موجه للآباء وللخريجين بالقول لِماذا وماذا تنتظر؟ بادر لاقتناص فرصتك من تلك الحاضنات فهي بانتظارك، لا تنتظر ما فاتك ولا تنتظر وظيفة ما عبر واسطة ما، في وسط جيشٍ عَرَمْرَمْ من الخريجين، لا تنتظر قدوم الفرصة إلَيْكْ فهي بجناحين لا بأقدام، كما أنها تتطلب إِقْدامَك وأَقْدامك معاً وسوياً تُجاهها.
وخلاصة القول لقد كانت الأسر في ما مضى، هي "حاضنات الأعمال" التاريخية ولا زالت، ولكن بدرجة أقل نظراً لتطور المجتمعات، وزيادة تعقيدات هياكلها وأنماط عيشها، ونظراً لبروز "القطاع الوظيفي" والاهتمام به كمسار آخر للتشغيل، وكان ذلك بعد الثورة الصناعية وبروز أنظمتها الإدارية والمصنعية، بعيداً عن "التشغيل الذاتي" والذي كانت تصنعه تلك الأسر بعفوية منها وتلقائية، وبشكل غير رسمي أو مدروس ومُمَنْهَجْ، فنجد مثلاً (الحَدادْ كان سابقاً يفضل أن يكون ابنه حداداً، وكذلك الميكانيكي، والنجار، وكذلك الأمر بالنسبة للمُعلمِ والمُهندسِ والطَبيبِ ... إلخ)، ، فكانت العائلات تسمى وتوصف بمسميات المهن حتى في الدول الأجنبية والمتقدمة منها، ولكن الأمر قد تغير فدعتنا الحاجة اليوم إلى الالتفات للأمر بطريقةٍ مقننةٍ ومُمَنْهَجةٍ ومدروسةٍ، تواكب العصر فيما أسلفت من دور "لحاضنات الأعمال" والتي حَلَتْ اليوم مِحِلَ الأسر في ذلك الدور، بأساليب أكثر عصرية وأسرع مواكبةٍ للمستقبل ومعطياته، وأختم قولي كما بدأت بأبيات من الشعر للمتنبي فيما تَخَيّرْتْ لتتناسب مع حديثي هذا، والذي وسم على الدوام واتصفَ بكثرة مُحاولاتهِ وإِلحاحهِ لنيل العلا واقتناصٍ للفُرصّْ في بلاط سيف الدولة الحمداني حينما قال: إنْعَمْ ولَذّ فَلِلأمورِ أواخِرُ .. أبَداً إذا كانَتْ لَهُنّ أوائِلُ .. فإنّما رَوْقُ الشّبابِ علَيكَ ظِلٌّ زائِلُ، وبذلك القول أختم “سارع في اغتنام فرصتك .. تجدها اتجاهك”.
• أكاديمي ومختص في التنمية المستدامة وريادة الأعمال.