الثلاثاء: 30/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

تطوّر الفكر السياسي عند حركة حماس

نشر بتاريخ: 29/12/2019 ( آخر تحديث: 29/12/2019 الساعة: 20:43 )

الكاتب: أحمد مسمح


لا تحظى فكرة المراجعات عادةً بنصيبٍ وافر لدى الغالبية العظمى من أنصار الجماعات الإسلاميّة، وليس لها مساحة من الحرية في المجالس التنظيمية، إذ السمعُ والطاعةُ هما السمةُ الغالبة في النظام الحركي، مع إمكانية تقديم النصيحة أحياناً للشيخ على استحياء، بالرغم من وجود العديد من الملاحظات والاستفسارات في صدور الشباب المنتمي لها.
لكن مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وارتفاع الأصوات المنادية بضرورة القيام بالمراجعات، وازدياد نسبة الأخطاء، وتعدد الاجتهادات، وتراجع حظوظ الربيع العربي، وإخفاق بعض الجماعات الإسلامية في إدارة ملف الأزمة، جعل من الواجب القيام بمراجعة شاملة للبنية التنظيمية من حيث الآليات والأساليب وطرق اتخاذ القرار، مما أعطى مساحة واسعة لإمكانية القيام بمراجعات حقيقية في التنظيم.
فعلى غير عادة الحركات الإسلامية التي لا تحظى أساليبها وطرق تفكيرها بتطوير وتغيير إلا نادراً، وذلك لارتباط تلك الحركات بخلفيات ومرجعيات دينية، فقد طورّت حركة حماس من طريقة تفكيرها وتعاملها مع الأحداث العالمية والإقليمية وحتى الداخلية، وخصوصاً فيما يتعلق باستراتيجية المقاومة في فلسطين، وهي بذلك تقف على أول الطريق الذي سارت عليه حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في تركيا، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والموضوعية والسياسية المغايرة.
حيث كشف الخطوات التي اتخذتها حركة حماس في السنوات الأخيرة، والتحركات السياسية لقيادة الحركة عن تطوّر في الفكر الحركي، وتغيير في سلوكها، وردة فعلها إزاء الأحداث، وهذا بفضل المراجعات التي تجريها بين فترة وأخرى، ووجود مفكرين في دائرة صنع القرار، والحصيلة الكبيرة من سلسلة تجارب خاضتها الحركة في المقاومة والحكم والسياسة، حيث يمكن وصف ذلك التطوّر بأنها تقترب من البراغماتية في التعامل مع الأحداث، وهذا يثبت أن حركة حماس تتعلم من أخطاء الماضي، وتأخذ الدروس والعبر في كل محطة، وتعيد قراءة الأحداث بما يتناسب مع المتغيرات الإقليميّة والدوليّة.
نرصد في هذا المقال ملامح ذلك التطوّر على كافة المستويات، وهو يأتي في ظل المراجعات التي تجريها الحركة بين الفينة والأخرى؛ لتقييم تجربتها وأدائها السياسي والإعلامي والحركي ومواقفها من كافة الأحداث الداخلية والخارجيّة.
تغيير لا بد منه:
يرى كثيرٌ من المفكّرين والمحلّلين أنّ على حركة حماس القيام بمراجعات شاملة في أساليبها في الحكم وإدارتها لبرنامج المقاومة وعلاقاتها الداخليّة والخارجيّة، وأن عليها أن تراعي الظروف الإقليمية والدوليّة، وتعيد التفكير في طرق تعاملها مع الأحداث، وأن ما كان يعتبره أنصارها من "الثوابت" يمكن أن يصبح من "المتغيرات" التي يمكن إعادة النظر فيها.
إن حركة حماس يقع على كاهلها مسؤولية كبيرة عربياً وإسلامياً، والعالم الإسلامي يتطلّع لها أن تقود المشروع الإسلامي في فلسطين مع بقية حركات المقاومة، وعليها مهمة عسيرة وهي معركة التحرير، وأصبحت الآن محطّ أنظار العالم، والعدوّ يتربّص بها كل لحظة ويستخدم كافة الأساليب لترويضها وإيقافها عن تحقيق حلمها، كل ذلك يحتّم عليها أن تأخذ بكل أسباب القوة؛ وأن تحذر من عوامل الإخفاق، وتراعي القاعدة الجماهيرية التي تناصرها وتؤازرها، وتستفيد من التاريخ وتجارب الحركات الأخرى.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ملامح هذا التغيير في تطوّر البنية التنظيميّة للحركة، والتغيير في لغة الخطاب السياسي والدعوي، وإدارتها للصراع الصهيوني، ومستقبل الدولة الفلسطينية، وعلاقتها مع فصائل المقاومة، والأسس التي أعادت بموجبها ترتيب علاقاتها الإقليمية والدوليّة، وكذلك الوثيقة السياسية التي أصدرتها تجديداً لميثاقها الأساسي.
يقول د. أحمد يوسف: "ولكننا نرى أن توطين مثل هذه الأفكار في أذهان كوادر الحركة وقياداتها يحتاج إلى حوارات موسعة، بهدف معرفة أين أصبنا، وأين أخطأنا؟ إن مثل هذه المراجعات لا بدَّ أن تتم؛ شئنا أم أبينا، إن عاجلاً أم آجلاً، حيث بتنا ندرك بأن المشروع الاسلامي أخذ يشهد تراجعاً، ويعاني من فقدان الثقة وحملات الاستهداف والشيطنة، واتهام الإسلاميين وحركة حماس بالتطرُّف والإرهاب".
بين الميثاق والوثيقة:
إن الذي يرصد التطورات السياسية في خطاب القادة مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية يجد أن لغة جديدة بدأت تطفو على السطح، وقد تبلور ذلك في إعلان وثيقة المبادئ والسياسات العامة عام 2017، والتي مهّدت لمرحلة جديدة من مراحل تطور الحركة على المستوى السياسي والمقاوم، وهي بداية لمرحلة جديدة تقدم من خلالها الحركة رؤيتها وفلسفتها للحاضر والمستقبل.
لقد كان الميثاق الأول والذي أصدرته الحركة عام 1988 يشكّل وجهة نظر أحد قيادات الحركة آنذاك، وبعض البنود الواردة فيه لا يعطي مساحةً رحبةً أمام حركة حماس لمواكبة المتغيرات الإقليمية والدولية وتطوير رؤيتها السياسية ونظرتها للإقليم، بما يجعلها تتكيّف مع التحولات واستيعاب المفاهيم الجديدة، وقد أثبتت الخطابات السياسية مدى مهارة الحركة في تطوير الرؤية السياسية.
لقد مرّت الحركة خلال تاريخها بالعديد من المحطّات والأحداث محلياً وإقليمياً ودولياً مما دفعها إلى أن تعيد صياغة هذا الميثاق بشيء من المرونة الفكريّة مع الحفاظ على ثوابتها ومبادئها، ومراعاة الدقة والموضوعية ومواكبة تلك الأحداث.
على المستوى الإقليمي:
فعلي المستوى الإقليمي غيّرت حركة حماس استراتيجتها وخارطة تحالفاتها والأسس التي تبنيها عليها، حيث فتحت الحركة علاقات واسعة مع النظام المصري الذي قاد الانقلاب على الإخوان، وقد كان أنصارها يعتبرون "الانقلاب" معركة مصير، وأصبحت اتصالاتها مع جهاز المخابرات المصرية ولقاءاتها لا تنقطع، وقد رأينا أول ثمار تلك اللقاءات وهو فتح معبر رفح بشكل دائم والإفراج عن معتقلين فلسطينيين من السجون المصرية، وكذلك التنسيق المتبادل فيما يخص الحالة الأمنية في سيناء.
وكذلك أعادت الحركة علاقتها مع إيران إلى سابق عهدها بعدما شهدت فتوراً واضحاً، بسبب موقف الحركة مما يجري على الأراضي السوريّة، ووقوفها إلى جانب الشعب السوري في ثورته إلى اعتبار ما يجري في سوريا شأناً داخلياً، وهو من صميم مبادئها بعدم التدخُّل في شؤون الدول الداخليّة.
على المستوى الداخلي:
استطاعت حركة حماس التنسيق مع فصائل المقاومة في إدارة ملف تحرير فلسطين، وذلك بتشكيل غرفة العمليات المشتركة، وهي المرة الأولى الذي يتم فيه تنظيم عمل المقاومة من غرفة واحدة، والإجماع على العمل الوطني المقاوم، وعدم خروج العمل المقاوم عن السياسة الموحّدة.
وقد ظهر ذلك التناغم جليّاً في حادثة اغتيال المجاهد عاهد أبو العطا من تنظيم الجهاد الإسلامي، حيث كادت الأمور تتصاعد إلى حرب مدمرة، ورفض حركة حماس التصعيد العسكري وترك أمر الانتقام إلى حركة الجهاد والفصائل الأخرى، وتفهّمت حركة الجهاد ذلك وفوّتت على الاحتلال اللعب على نغمة الخلاف الداخلي.
إن حركة حماس أيقنتْ أن الظروف الإقليمية والدوليّة غير ملائمة لإقامة معركة مع العدو الصهيوني في قطاع غزة؛ لذلك عضّت المقاومة على الجراح، وجنّبت الشعب في غزة الدخول في مواجهة عسكرية غير محسوبة النتائج، وذلك لأن نتائج حرب 2014 ما زالت ماثلة أمامها، فلا تريد إعادة التجربة الأليمة من جديد، بالرغم من النجاحات التي تحققت على المستوى الأمني والعسكري.
أما بالنسبة للانتخابات فقد أبدت حركة حماس مرونة كبيرة في قبول الانتخابات على أي نظام سواء كان على نظام الدوائر أو نظام التمثيل النسبي، وعلى أي ترتيب كان، وإنما الهدف هو أن تجري الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ لأن الانتخابات قد تشكّل مخرجاً للانقسام الداخلي.
على المستوى الدولي:
أما على المستوى الدولي فقد كان اتهامها بالإرهاب عائقاً أمامها لتقديم نفسها للعالم على أنها حركة تحرر وطني برؤية إسلامية، وأنها تقارع الاحتلال وتحاول دحض روايته المزعومة، وقد فتحت علاقات مع روسيا وبعض الدول الآسيوية، بينما لم تحسمْ أمرها بشأن علاقتها مع أمريكا.
إن الاتحاد الأوربي يدرك أن حركة حماس ليست إرهابية، وأن حركة حماس لا يمكن تجاهلها في القضية الفلسطينية لما من ثقل سياسي ووزن شعبي، ويعلم أنها لاعب فاعل في القضية الفلسطينية، لذلك يعمل على احتوائها سياسياً أو إقليمياً، وفي الوقت نفسه لا يتعامل معها مباشرة وإنما بشكل غير مباشر عبر وسطاء ووزراء سابقين.
ويرى الباحث محمد إلهامي من المعهد المصري للدراسات أن "حماس قدَّمت خطاباً سياساً يبتعد ما استطاع عن الإشكاليات الفكرية ويتجنب المشاكل السياسية، ولم تتزحزح حماس في تصريحاتها ومواقفها عن الثناء على النظم العربية وتثمين مواقفها وشكرها على ما يصدر عنها من مواقف مهما كانت تافهة أو صدرت بغرض الاستهلاك الإعلامي، وتجنب التعليق على سياساتها العدائية".
لقد وضعت حركة حماس قاعدة لنفسها فيما يخص الإقليم والعالم وهو عدم التدخل في شأن أي دولة ولو كان التدخل في صالحها، وقد أفادها ذلك كثيراً وذبّ عنها العديد من الأخطار.
وضع مركز الزيتونة للدراسات ثلاثة سيناريوهات حول طبيعة العلاقة المستقبلية بين حركة حماس والدول الأوربية: الأول؛ أن تدرك الدول الأوروبية، ضرورة التعامل الواقعي مع حماس، واستئناف علاقة براجماتية مع حماس؛ وإطلاق حوار مباشر مع الحركة أو حتى بناء علاقات معها. الثاني؛ أن تُلين الحركة من مواقفها المتعلقة بشروط الاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية الدولية، وهو ما يفسح المجال لعلاقات مستدامة مع الأوروبيين والأمريكان، بما قد ينعكس تماماً على تغيير المشهد الداخلي الفلسطيني. الثالث؛ أن يظل الاتحاد الأوروبي على موقفه الحالي من الحركة، وتظل العلاقة بين الطرفين تراوح مكانها نظراً لتعقيدات المشهد المحيط، وهو ما يرتب على الحركة مسؤولية الاستمرار في العمل على تغيير الموقف منها سياسياً وقانونياً".
ويرجّح المركز السيناريو الثالث وهو ما نشهده حالياً، حيث لا زالت العلاقة تراوح مكانها، وذلك لقناعة الاتحاد الأوربي أن الحل السلمي هو الحل الأمثل للقضية الفلسطينية مع تبنّي رواية الاحتلال الصهيوني، ولكن تعثّر التسوية السياسية يعطي العمل المقاوم نجماً أكبر وفرصة أعظم ليتصاعد ويثبت نجاحه.
أمل معقود:
إن المصالحة لا بد أن تحدث عاجلاً أم آجلاً، ولا يمكن للقضية الفلسطينية أن تتقدم خطوة فعلية إلى الأمام دون أن تتشابك أيدي الفرقاء السياسيين، ولا يمكن لفصيل واحد أن يقوم بقيادة مشروع التحرير، مهما امتلك من قوة وجمهور؛ فحركة فتح لها وزنها في الشارع ورصيد كبير في النضال الفلسطيني، وتلعب دوراً فاعلاً في النظام السياسي الفلسطيني، خصوصاً في تمثيل فلسطين في المحافل الدولية، ولا يمكن أن تكتمل لوحة فلسطين أو تشرق شمسها إلا باتحاد البيت الفلسطيني.
بناءً على ما سبق؛ فإن الشعب الفلسطيني يعقد الأمل على الحركة الإسلاميّة في فلسطين أن تعيد تقييم تجربتها في الحكم، وتصحح الأخطاء التي وقعت فيها، وتعزز حاضنتها الشعبية وقوة تواجدها الجماهيري، وتطوّر من أدائها السياسي والعسكري، وكما حققت نجاحاً في عملية أمنية معقدة أطلقت عليها اسم "حدّ السّيف"، فإنه لا بد أن تحقق نجاحاً آخر في تحقيق المصالحة المجتمعية، وتصويب المسار وتعيد -مع شركاء المقاومة- المشروع الفلسطيني إلى قاطرته الصحيحة، وتراعي الظروف الإنسانية لقطاع غزة الذي أرهقته سنوات الحصار، وقدّم صورة جميلة ولوحة فنية في الصمود والمقاومة.