الكاتب: د. جمال زحالقة
شنت آلة الحرب الإسرائيلية عدوانا واسعا على إيران، نهاية الأسبوع المنصرم، استهدفت فيه المنشآت النووية ومنصات الصواريخ ومصانع الأسلحة وأجهزة الطرد، وعددا كبيرا من المرافق المدنية الحيوية، من بينها المستشفيات، التي يبدو قصفها استحواذا إسرائيليا ثأريا. وبموازاة الحرب على الجمهورية الإسلامية، التي شدّت أنظار العالم واستأثرت بتغطية إعلامية ضخمة، واصلت صناعة الموت الإسرائيلية عملها بكامل القوّة في غزة، ما أدى إلى المزيد من سفك الدماء ومئات الشهداء وآلاف الجرحى خلال أيام، من دون اهتمام دولي وعربي. وتستغل إسرائيل انشغال العالم بالحرب الجديدة للإمعان في تنفيذ حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل «القديمة» وفي تجهيز الأرضية لتطبيق مشروع التهجير الأمريكي ـ الإسرائيلي. وهنا لا بدّ من استصراخ ضمائر العالم وما تبقّى من الضمير العربي لنجدة ولنصرة أهل غزّة وللعمل على حمايتهم من المزيد من الجرائم.
تدّعي إسرائيل في تبرير حربها، أن «المشروع النووي» الإيراني يشكّل خطرا وجوديا على الشعب العبري، وعلى دولته، مع أن إيران تؤكّد بشكل دائم أنّها ليست معنية بتطوير سلاح نووي، وأبدت استعدادا للتوصّل إلى اتفاق جدّي يشمل تقييدات على تخصيب المواد المشعّة، ورقابة مشدّدة على منشآتها النووية، ما يضمن ـ كما هو رأي معظم المختصين في العالم، وحتى في إسرائيل نفسها ـ اقتصار النووي الإيراني على الأغراض السلمية. وقد أجرت الإدارة الأمريكية مفاوضات مع إيران، وكان يبدو في مرحلة ما أن الحلول الوسط واردة في الحسبان، وأن الاتفاق ممكن. هنا تدخلت إسرائيل – نتنياهو مباشرة، ومن خلال حلفائها في الحزب الجمهوري وفي وسائل الإعلام، واستطاعت التأثير لجعل الموقف الأمريكي أكثر تشدّدا، ما أدّى إلى انتهاء مهلة الستين يوما التي منحها ترامب للمفاوضات، وفي اليوم الحادي والستين، وبعد ثلاث ساعات من انتهاء «مهلة ترامب»، بدأت إسرائيل حربها، تبعا لضوء أخضر تلقته من ترامب، وُصف بأنّه شديد الاخضرار.
انقسم المجتمع السياسي الإسرائيلي عشية الحرب، بين من يدعم الخيار العسكري، ومن يدعو إلى منح فرصة للحل السياسي، لكن، ما إن نشبت الحرب، حتى اصطفت النخب الإسرائيلية كالقطيع، ولم يخرج من صفوفها أي صوت ينطق بحقيقة أن الحل الدبلوماسي كان في متناول اليد. كذلك الأمر اصطفت قيادات دول «الحضارة الغربية» في دعم حرب إسرائيل، ملوّحة بحق الدفاع عن النفس المزعوم والمحصور على دول هذه الحضارة. ولا يعود هذا الموقف الداعم لدولة «الخط الأمامي ضد بربرية الشرق» ـ كما وصفها هرتسل، إلى اعتبارات سياسية استراتيجية فحسب، بل يغوص عميقا في تراث عداء المسلمين وعداء الفرس والاثنين معا. ومن المعروف أن الصورة النمطية للفرس تشكّلت في أوروبا عبر التاريخ منذ حرب إمبراطورتيهم مع اليونانيين القدماء. وبعد الثورة الإسلامية استعيدت نمطية «الاستبداد الشرقي» الفارسي في الإعلام والأدب والفن، وجرى تصوير الإيرانيين بأنّهم متطرّفون وغير عقلانيين. ومن يظن أن في هذا الكلام مبالغة، فهو مدعو لمشاهدة فيلم 300 (إخراج زاك سنايدر، 2006)، الذي يظهر فيه الفرس بوصفهم «الآخر المتوحّش، الطاغي وغير العقلاني»، في مواجهة الغرب «الحر، البطولي، العقلاني»، ما جعله تجسيدا سينمائيا، لما كتب عنه وحذّر منه إدوارد سعيد في أيقونته «الاستشراق».
الدور الأمريكي
ساد إجماع لدى النخب الإسرائيلية بأن أهم شروط شن حرب على إيران هو الحصول على موافقة وتأييد ودعم من الولايات المتحدة، تصل إلى حد المشاركة الفعلية في الحرب. وما كان نتنياهو ليقدم على اتخاذ قرار الحرب، لولا حصوله على ضمانات أمريكية وازنة. التغيير الكبير في الموقف الأمريكي، الذي مهّد للحرب هو فوز ترامب في الانتخابات، فقد اعتبره نتنياهو نقطة تحول، وسارع إلى إصدار تعليماته للموساد وللجيش بالشروع في التحضير للحرب. وإذ يدور الحديث هذه الأيام عن مشاركة الولايات المتحدة في الهجوم على إيران، فإنّه من الواضح أنّها متورّطة فيها والسؤال فقط هل ستتورّط أكثر؟ فقد وفّرت الولايات المتحدة للدولة العبرية أحدث وأقوى أنواع الأسلحة، وبعد انتخاب ترامب اشتكى بعض الخبراء العسكريين الإسرائيليين من أنّ المخازن امتلأت بالذخائر والعتاد ولم تعد تتسع للمزيد، وأن كل ما طلبته إسرائيل حصلت عليه، إضافة لذلك منحت الإدارة الأمريكية شبكة أمان اقتصادية بمليارات الدولارات، استنادا إلى ما جرى الاتفاق عليه في عهد بايدن، من تغطية تكلفة الذخائر التي تستهلكها الحرب، وفق ما جاء في إعلان القدس عام 2022، من أن الولايات المتحدة «تلتزم بتقديم مساعدة إضافية في مجال الدفاع المضاد للصواريخ تتجاوز مذكرة التفاهم (الدعم المالي العادي) وذلك في ظروف استثنائية». كما وفّرت الإدارة لإسرائيل دعما سياسيا ودبلوماسيا على الساحة الدولية.
وتشارك الولايات المتحدة في الحرب بشكل مباشر، من خلال سفنها الحربية وطائراتها ومنصات صواريخها المضادة للصواريخ، التي نصبتها في إسرائيل، وفي مواقع أخرى في الشرق الأوسط. وتقدم المنطقة الوسطى التابعة للجيش الأمريكي (سنتكوم) دعما لوجستيا ومعلومات أمنية على مدار الساعة، عبر طائرات التجسس والأقمار الصناعية وشبكات الرادار المنصوبة في أماكن مختلفة، ومنها الرادار طويل المدى الأمريكي، الموجود في موقع المدينة النبطية التاريخية «رحيبة» في النقب (معسكر هار كيرن)، الذي يستكشف الصواريخ الإيرانية حال إطلاقها ويرسل المعلومات للجيش الإسرائيلي أوّلا بأوّل.
بقي السؤال المهم جدّا حول إقدام الولايات المتحدة على المشاركة المباشرة في الهجوم الإسرائيلي، عبر استخدام القاذفات الضخمة من طراز بي-2 والقنابل العملاقة في قصف منشآت إيرانية تحت الأرض، وبالأخص موقع «فوردو» النووي. ولا تعود التصريحات والتسريبات الأمريكية المتناقضة بهذا الخصوص إلى شخصية ترامب المتقلّبة فحسب، بل إلى خلاف حاد بين الانعزاليين والصقور، بين من يدعون إلى عدم التدخل تحت شعار «أمريكا أولا»، ومن يدفعون باتجاه المشاركة بالحد الأقصى «دفاعا عن مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها». وما تخشاه الإدارة الأمريكية عموما هو أن يؤدي التدخل المباشر إلى قصف الأهداف الأمريكية المنتشرة في الخليج، وفي بقية أرجاء المنطقة. إسرائيل من جهتها تزعم أنها لا تطلب ولا تضغط وتترك القرار للرئيس ترامب، وتدّعي بأن لديها حلا لقصف موقع «فوردو». لكن لماذا تُطرح المشاركة الأمريكية المباشرة إذن؟ يبدو أن إسرائيل قادرة على التسبب بأضرار في المنشأة، وفقط الولايات المتحدة تملك القدرة على تدميرها بالكامل، كما أن هناك اعتقادا إسرائيليا بأن التدخل الأمريكي المباشر سيجعل الحرب قصيرة وخاطفة كما تريدها، إذ ان أكثر ما تخشاه إسرائيل هو تحول الحرب إلى حرب استنزاف بعيدة المدى.
نتنياهو
لقد كان الملف الإيراني هو أكثر ما اهتم به نتنياهو، الذي ادعى ما معناه أن العناية الإلهية اختارته لحماية الشعب اليهودي من كارثة ثانية، على اعتبار أن «همّ إيران الأول» هو القضاء على الدولة الإسرائيلية. ومن المؤكّد أنّه صاحب القرار الأوّل والأخير في شن هذه الحرب. وقد وضع لها غاية شاملة وهو تقويض التهديد الذي تشكّله إيران على إسرائيل عبر تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، محو المشروع النووي الإيراني، والثاني القضاء على الخطر الصاروخي الإيراني، والثالث، تفكيك ما يسمّيه «شبكة الإرهاب الإيرانية» في المنطقة. هناك أيضا هدف رابع غير معلن، ويصفه نتنياهو بالنتيجة وليس بالهدف وهو إسقاط النظام.
وفي مقابلة له مع القناة 14 الإسرائيلية، قال نتنياهو، إن تحقيق النصر المطلق سيؤدي إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط، وإلى فتح باب المزيد من التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل. وحين سئل عن مشروع التهجير، أكّد أنه ما زال «على الطاولة» وأنه يبذل جهودا لتنفيذه، مشيرا إلى أن الكثير من الأمور ستتغير في الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب. ورشح من المقابلة أن نتنياهو بدأ في إحصاء الأصوات الإضافية التي سيحصل عليها في الانتخابات المقبلة، وظهر فيها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يكتب «صفحات المجد» للتاريخ، مشيرا المرة تلو الأخرى إلى أنه ابن لمؤرّخ وأن ما يجري هو أحداث تاريخية.
ما يحدث هذه الأيام هو في غاية الخطورة، وإذا حققت إسرائيل أهدافها فسوف تتحول إلى «امبراطورية الشرق»، استنادا إلى ضعف أو تواطؤ محيطها واتكاءً على دعم الإمبراطورية الأقوى في العالم. وحتى الذين لديهم انتقادات وتحفّظات وخلافات مع إيران عليهم أن يحذروا مما هو مقبل من خطر إسرائيلي قريب وبعيد المدى.