الجمعة: 29/03/2024 بتوقيت القدس الشريف

مقاصد مسرحية هار دوف أبعد من محيط بلفور

نشر بتاريخ: 28/07/2020 ( آخر تحديث: 28/07/2020 الساعة: 17:21 )

الكاتب: العميد: أحمد عيسى

للمرة الثانية في أقل من عام يرتكب الجيش الإسرائيلي خطأ، أغلب الظن أنه خطأ مقصود، في إعتداءاته المستمرة على سوريا، وفي المرتين هناك شهداء من مقاتلي حزب الله المتواجدين على الأراضي السورية.

في المرة الأولى رد حزب الله في الأول من أيلول/سبتمبر العام 2019، باستهداف آلية عسكرية إسرائيلية متحركة بالقرب من ريفيفيم بصاروخ كورنيت، من جهتها لم ترد إسرائيل ولم توسع دائرة المواجهة مع الحزب في لبنان كما هددت، الأمر الذي أبقى يد حزب الله هي العليا في علاقات القوة اللامتماثلة بين الطرفين.

وفيما لم يرد الحزب بعد على مقتل أحد مقاتليه يوم الإثنين الموافق 20/7/2020، على إثر هجمات إسرائيلية لموقع عسكري بالقرب من مطار دمشق، إلا أنه أكد في بيان نعي الشهيد أن الرد آت لا محالة، كما أعلن على لسان الشيخ نعيم قاسم نائب السيد نصر الله في مقابلة له مع قناة الميادين بتاريخ 26/7/2020، أن قواعد الإشتباك مع إسرائيل لم تتغير.

من جهتها أوقفت القيادة السياسية الإسرائيلية عصر يوم الإثنين الموافق 27/7/2020، كل سكان إسرئيل على (رجل ونص)، ووجهت أنظارهم لمتابعة ما يجري على الجبهة الشمالية، حيث أعلنت كل وسائل الإعلام في إسرائيل أن الجيش قد إكتشف مجموعة لحزب الله تجاوزت الحدود كانت في طريقها لإقتحام موقع محصن للجيش في مزارع شبعة أو (هار دوف) وفقا للتسمية العبرية للمنطقة، وأجبرها على الهروب والإنسحاب دون أن يحدث قتلى في صفوفهم، حيث جرت هذه المحاولة في سياق رد الحزب على مقتل أحد عناصره في سوريا الأسبوع الماضي.

ومن جهته نفى حزب الله عبر بيان قرأه مذيع تلفزيون المنار على الهواء مباشرة، أن يكون قد حاول تنفيذ تعهده بالرد على مقتل أحد عناصره، وأن ما تبثه أجهزة الإعلام الإسرائيلية ليست أكثر من عمل سينمائي وفبركة إعلامية، واضاف البيان أن إستهداف أحد البيوت المدنية في المنطقة لن يمر دون عقاب.

وكانت هذه الحلقة من مسرحية هار دوف، قد إنتهت بالمؤتمر الصحفي المقتضب لكل من رئيس الوزراء نتنياهو، ووزير الدفاع ورئيس الوزراء الخليف بيني جانتس في أحد قاعات وزارة الدفاع في تل أبيب، حيث أعلنا فيه أن اي محاولة جديدة للرد من قبل الحزب ستجلب رد إسرائيلي قوي لن يكون بمقدور كل من لبنان وسوريا إحتماله.

في تفسيره لهذا الجزء من المسرحية قال الجنرال المتقاعد عاموس يادلين الرئيس السابق لشعبة الإستخبارات العسكرية (أمان) والرئيس الحالي لمعهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي في نشرة الساعة الثامنة مساء للقناة التلفزيونية 12، "أنا ممن يثقون برواية الجيش الذي أعلن أنه أحبط عملية تسلل لأحد مواقعه من قبل مقاتلي حزب الله وأجبرهم على الإنسحاب والتراجع، وهكذا يكون الطرفين قد حققا ما يريدان لكن بإحترام ودون سقوط قتلى من الطرفين..... أما في شأن ما قاله نتنياهو أضاف يادلين "إذا ما رد حزب الله بعد اليوم، سيستهدف الجيش الملجأ الذي يقيم فيه السيد نصر الله".

عند هذا الحد إنتهى العرض الأول من مسرحية هار دوف، صحيح أنه عرض هابط ولا يصلح أن يعرض في قاعات العرض من الدرجة الأولى وينطوي على تزوير ملموس ومكشوف لوعي الإسرائيليين، ولم يحقق المطلوب منه لا سيما، رفع ثقة الشعب بالجيش الذي لم يعد قادراً على تعريف النصر، فما بالك بالقدرة على تحقيقه! لكن تقديمه من قبل من يثقون برواية حزب الله وأنا منهم، أن الغاية الأساسية لنتنياهو مخرج هذه المسرحية هي صرف الأنظار عما يدور في محيط بلفور (السكن الرسمي لرئيس وزراء إسرائيل) ينطوي على تزوير مماثل لوعي القارئ العربي ينبغي الحرص على عدم الوقوع فيه في هذه اللحظة من حرب العقول والأدمغة على الوعي، حيث ترى هذه المقالة أن الأمر ابعد مما يدور في محيط بلفور وقد ينزلق الى صدام محدود، أو جولة قتالية، أو حتى حرب واسعة في المنطقة.

صحيح أن الأوضاع السائدة في العالم والمنطقة بسبب فيروس كورونا وتداعياته الصحية والإقتصادية والإجتماعية، لا تشي بأن أي من الأطراف في المنطقة جاهزة للمواجهة والقتال والحرب، إلا أن كل شعوب المنطقة تدرك أن المواجهة الكبرى بين إسرائيل ومحور المقاومة حتمية الوقوع، وكل الأطراف تستعد وتتجهز لذلك، الأمر الذي يجعل من إندلاعها لأي سبب وفي أي وقت أمر ممكن، لا سيما وأن بدائل الحرب، أي الحرب الذكية المطبقة منذ فترة طويلة من قبل أمريكا وحلفائها قد ثبت فشلها، فسوريا الجيش والنظام قد أسقطت مع حلفائها المخطط الأمريكي الإسرائيلي الخليجي التركي الإخواني الهادف الى إخراجها من قلب محور المقاومة لتسهيل الإستفراد بعد ذلك بكل من إيران وحزب الله وبقية الحلفاء، والأهم أن إيران لم تسقط رغم الحصار والعقوبات غير المسبوقة في التاريخ الحديث، ولم تخرج من سوريا والعراق، كما أن حزب الله لم يتوقف عن مراكمة وتطوير القوة رغم كل الهجمات الإسرائيلية.

من الواضح هنا أن فشل الحرب الذكية في تحقيق الأهداف المرجوة منها قد دفع العقل الإستراتيجي الإسرائيلي (في كل من الحكومة القائمة والدولة العميقة) الى الجنوح نحو الحرب التقليدية، الأمر الذي يمكن الإستدلال عليه من خلال تكثيف وتوسيع دائرة الهجمات العسكرية الإسرائيلية مؤخراً خارج الجغرافية السورية لتصل إلى قلب طهران، الأمر الذي ينطوي على مخاطرة إندلاع حرب، لا سيما وأن أكثر من 70% من الرأي العام اليهودي في إسرائيل يؤيد ويدعم هذه المخاطرة طبقاً لنتائج مسوح الرأي العام الخاصة بمقياس الأمن القومي الإسرائيلي التي نفذها معهد (INSS) لعامي 2019-2020.

ومن الواضح كذلك أن جنوح إسرائيل للحرب لا يجري بعيداً عن الدعم بل والمشاركة الأمريكية في هذا الجنوح، الأمر الذي يستدل عليه من خلال تصريحات سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى لبنان دورتي شيا لقناة الحدث السعودية يوم الجمعة الموافق 26/6/2020 حيث قالت "أن بلادها تشعر بالقلق حيال دور حزب الله المصنف منظمة إرهابية"، ثم المحاولة الفاشلة للسفارة الأمريكية بإحياء ذكرى مقتل جنود المارينز في لبنان العام 1983، بالقرب من مطار بيروت، أي في منطقة الضاحية حيث مقرات حزب الله، يوم الأربعاء الموافق 8/7/2020 بحضور قائد القوات المركزية الجنرال ماكينز، ثم زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكي الجنرال مايك ميلي المفاجئة الى تل أبيب يوم الجمعة الموافق 24/7/2020، والتقائه كل من وزير الدفاع رئيس هيئة الأركان كوخافي، وأخيراً إعتراض مقاتلات حربية أمريكية فوق الأراضي السورية لطائرة مدنية إيرانية تقل مواطنين لبنانيين كانت في طريقها لمطار بيروت.

وعلى الرغم من المخاطر والتهديدات المتضمنة في هذه الوقائع، إلا أن العقل الإستراتيجي للحزب ومن خلفه محور المقاومة يدرك أن كلفة عدم الرد أعلى بكثير من كلفة الرد، لا لأن الحزب قد أصبح النموذج القدوة للعرب والمسلمين فحسب، بل لأن عدم الرد يكسر قواعد الإشتباك الذي نجح الحزب بتثبيتها في علاقات القوة مع إسرائيل،الأمر الذي سيدفع إسرائيل ومن خلفها أمريكا لمزيد من التغول في المنطقة.

* المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي