الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

من النقاش المجرد إلى أرض الواقع: ما السلطة الفلسطينية؟: نحو رؤية للبناء الوطني بتكامل مع التحرر الوطني

نشر بتاريخ: 05/12/2020 ( آخر تحديث: 05/12/2020 الساعة: 20:34 )

الكاتب: د. وليد سالم


يقتصر الجدل الفلسطيني حول السلطة الوطنية الفلسطينية حول الجانب السياسي ، وبين محورين ،أحدهما يجرمها وينعتها بأشنع الاوصاف داعيا لحلها ، و / أو التبرؤ منها لأنها تنسق مع الاحتلال أمنيًا. وثانيهما يقف على النقيض مدافعا ومنافحا عنها. ويقاطع كل محور المحور الاخر ويطلق ضده سيولا من البيانات والتصريحات المعمقة للتشرذم والانقسام ، والمبررة للدخول في محاور عربية ودولية من البعض ضد البعض الاخر.
يغيب عن هذا الجدل بشكل جزئي أو كامل مسألتان تتعلق الأولى بجدوى مبنى السلطة الاداري - الخدماتي لذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الرابض على قسم من أرض وطنه ، وجدواها الدولية سيما بعد أن تحولت السلطة إلى دولة معترف بها من ١٤١ دولة في العالم بعد عام ٢٠١٢ ، والثاني مرتبط بالأول ويتعلق بما أطلق عليه إسم " البناء الوطني ".

في مبناها يجدر التذكير بالبديهيات وهي أن السلطة تتضمن مجلسا تشريعيا وجهاز قضاء، وسلطة تنفيذية تضم رئاسة ووزارات وسلطات وأجهزة مدنية وأمنية . فوزارة التربية والتعليم مثلا تشرف على مدارس يلتحق بها مئات آلاف الطلبة ، ووزارة التعليم العالي تتابع جامعات ينتسب إليها عشرات آلاف الطلبة ، ووزارة الصحة تتابع كل الشؤون الصحية وتدير حاليا مشكلة كورونا المستعصية، ووزارة الاشغال العامة تشق الطرق وتنشئ المباني العامة ، ووزارة الخارجية تدير العلاقات مع ١٤١ دولة اعترفت بدولة فلسطين منذ عام ٢٠١٢ العام الذي اعترف به بفلسطين كدولة عضو مراقب في الامم المتحدة، ووزارة الحكم المحلي تتابع شؤون المجالس البلدية والمحلية ، ووزارة الثقافة تدير مراكز ثقافية وتطور متاحف ومكتبات وارشيف فلسطيني مركزي ، ووزارة السياحة تتابع المواقع التراثية والاثرية في فلسطين وتنظم السياحة إليها وتواجه محاولات الطمس الاسرائيلية للتراث الحضاري والاثري الفلسطيني، ووزارة الشؤون الاجتماعية ترعى العائلات المعوزة وتقدم لها المساعدات ، ووزارة العمل تتابع قضايا العمل والعمال ، ووزارة الاقتصاد تتابع شؤون اقتصاد فلسطين وعلاقاته الخارجية، وكذلك سلطات البيئة والنقد والمياه وجهاز الاحصاء المركزي وغيرها من السلطات والاجهزة المدنية ، ووزارة الداخلية التي تتابع الشرطة والاجهزة الامنية ، والشؤون المدنية التي تتابع سجلات النفوس واصدار الهويات وجوازات السفر ، وهكذا . أي وزارات وأجهزة تتابع كل جوانب الحياة لذلك الجزء من من الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة بما في ذلك مبلغ المليار ونصف دولار التي تحول من رام الله إلى غزة سنويا.
لهذه السلطة توضع خطط نوعية للحكومة الفلسطينية ثلاثية وخماسية وسنوية ، وكذلك خطط لكل وزارة تتابع وتنفذ وتقيم . هي سلطة تعمل إذن على مستوى السياسات لا على مستوى السياسة .

يناقش المثقفون السلطة وكأنها تلك السلطة التنفيذية العليا التي تعمل على المستوى السياسي والامني وحسب ، ويتهمونها بالسمسرة مع إسرائيل بهذا الاتجاه . ولكن هذه ليست السلطة ، بل جزء منها فقط هو المستوى السياسي من المستوى التنفيذي منها والشامل للرئاسة ودائرة شؤون المفاوضات والاجهزة الامنية . ما عدا هذا الجزء السياسي هنالك الجزء الذي يصنع السياسات وليس مجرد السياسة ، وهو الجزء الاهم لأنه يقوم على خدمة قضايا الشعب مصيبا في بعض الجوانب ومخطئا في أخرى كما تشير التقييمات التي تصدر عن تنفيذ الحكومة والوزارات لخططها. يناقش المثقفون اذن السياسة ويتجادلون حولها ، ولكنهم يلتفتون بشكل أقل للسياسات التي تتطلب بحثا جادا يبدء بمراجعة خطط السلطة وما ينفذ منها والفرص والعقبات وجوانب القوة وجوانب الضعف فيها ، واقتراح توصيات وسياسات بديلة من أجل تعزيز البناء الوطني الفلسطيني.

في خضم هذا الجدل الذي يدور في الاطر الفوقية للسياسة والتي لا تلامس بالتالي قضايا الشعب وصموده ومستلزمات بقائه في أرض وطنه ، هنالك عدد من الامور المنفصلة عن واقع الناس التي يطرحها بعض المثقفين المشغولين بالسياسة وحسب ، و يلفت الانتباه منها إقتراح حل السلطة ، فكيف تحلها وهي تقوم بما تقوم به على الشاكلة الموصوفة أعلاه ؟ ومن سيقوم بما تقوم به وزاراتها إذا ما حلت ؟ . وما الذي سيتم عمله مع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين من قبل ١٤١ دولة في العالم بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين عام ٢٠١٢ مما أدى إلى تحول السلطة الفلسطينية إلى دولة من الناحية القانونية ؟. والاكثر إثارة للمفارقة هو الاقتراح بتحويل صلاحيات السلطة بعد حلها إلى البلديات والمجالس المحلية ، وهذا غير ممكن ، إذ أن السلطة تقوم بمهمات مركزية على مستوى كل المحافظات ، سيؤدي تحويلها إلى البلديات إلى تقسيمها بطريقة ستفتت الوحدة وتفتح الباب أمام تطبيق مشروع الامارات الفلسطينية المنفصلة الذي طرحه مردخاي كيدار وتبنته بعض أوساط اليمين. وما عدا ذلك طرحت فكرة التبرؤ من السلطة ، فكيف يتبرأ المرء من ١٥٠ ألف موظف هم قوام السلطة وأجهزتها المختلفة؟. لربما يجدر إذن تحري الدقة والتمييز بين العداء للسلطة السياسية من قبل البعض وبين كل السلطة التي يعمل فيها أشقاء وشقيقات من الشعب الفلسطيني يسكنون نفس البيوت وينتمون لنفس العائلات كما قبعوا في ذات السجون الإحتلالية. وهي السلطة التي شرعتها أيضا كل الفصائل بعد مشاركتها كلها ما عدا حركة الجهاد الاسلامي في انتخابات عام ٢٠٠٥ للمجلس التشريعي وانتخابات عام ٢٠٠٦ للرئاسة.

يجانب الصواب إذن طرح حل السلطة وتحويل صلاحياتها للبلديات ، وفي المقابل هنالك الكثير مما يحتاج إلى إعمال جهد المثقفين والمفكرين لمعالجته ومنه دراسة خطط الوزارات المختلفة وايجابيات وثغرات تنفيذها وتقييمها وإغنائها وطرح آفاق لرفع مستوى فلسطين في كافة المجالات ، ومنه أيضا طرح مسألة وقف التنسيق الامني مع الاحتلال ، ومراجعة إتفاق باريس الاقتصادي لتوفير بدائل تحرر فلسطين من الاعتماد على الاقتصاد الاسرائيلي وهكذا من ايلاء جهد لتطوير السياسات التي تبني فلسطين وتعزز الصمود والاعتماد على الذات بديلا لمجرد الاكتفاء بالمماحكات والسجال السياسي على المستوى الفوقي وحسب .

بلغة أخرى ربما الافضل التركيز على سياسات لبناء فلسطين من أسفل بدلا من الاكتفاء بجدل سياسي يعيد فيه كل كاتب تكرار مواقفه مرة ومرات بحيث بتنا نعرف ما سيقوله كل كاتب بمجرد قراءة العنوان.

لعل المسألة المرتبطة التي بحاجة إلى الجسر جديا بين التوتر القائم بين مكونيها هي مسألة البناء الوطني وعلاقته بالتحرر الوطني ، أي كيف يعزز البناء الوطني الثبات على الارض بما يمكن من الاستمرار في الكفاح الوطني ، وبالمناسبة فهذه مسألة لا تخص ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني المقيم في الضفة وغزة فقط ، بل تخص أيضا فلسطينيي الداخل ، وكذلك اللاجئين والجاليات الفلسطينية في شتى ارجاء الارض.

بالنسبة للضفة وغزة فإن فلسطينييها يتحملون العبء الاكبر في النضال الوطني الفلسطيني من اجل التحرر الوطني منذ إنتقل مركز الكفاح الوطني الفلسطيني من الخارج إليهم ، وفوق ذلك فهم يدفعون الثمن الباهظ للاستيطان الاستعماري المكثف على أراضيهم ومساكنهم ، لذلك فإنهم يحاولون ممارسة البناء الوطني بما يمكن من تثبيت الوجود وحفظ البقاء على أرضهم وذلك بالتعاون بين مؤسسات السلطة ووزاراتها ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص والمبادرات التنموية المحلية. أي أنهم يمارسون الكفاح الوطني والبناء الوطني معا ، مع كل المشكلات التي تكتنف ذلك سيما لجهة انكفاء الكفاح الوطني وتشرذمه ومحللته وتميزه بالعفوية وردود الافعال بعد أن تراجعت الفصائل عن تنظيمه بشكل كبير سيما بعد انتهاء الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٥.
في الخارج لم يعد هنالك كفاح وطني منظم ولا بناء وطني منظم منذ انتقلت القيادة من الخارج إلى الداخل بعد توقيع اتفاق أوسلو ، واوقفت م ت ف عمل مؤسسة صامد لتعزيز صمود فلسطينيي الخارج كما تراجع عمل كافة مؤسسات م ت ف في خدمتهم، وهو الامر الذي يتطلب المراجعة والعمل على معالجته.
بين فلسطينيي الداخل تقوم مهمة البناء الوطني من خلال المزج بين العمل البرلماني لتحقيق بعض المطالب المتعلقة بتعزيز البقاء والصمود والعمل الشعبي الذي تقوم به لجنة المتابعة لبناء مؤسسات تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية ، كما تساهم لجنة المتابعة في تنظيم مبادرات المشاركة في الكفاح الوطني الفلسطيني العام ضد المشروع الاستيطاني الاستعماري. بهذا الاتجاه ربما تحتاج مهمة البناء الوطني إلى مزيد من التركيز في الداخل سيما لجهة تطوير أوسع لمنظورها التنموي للإنسان والاقتصاد والمجتمع والثقافة ووضع خطط تنفيذية دورية لذلك بالتوافق مع مناظير وخطط باقي أبناء الشعب الفلسطيني، ولربما تحتاج تجربة العمل البرلماني إلى إعادة تقييم لإنجازاتها سيما بعد تشريع قانون القومية عام ٢٠١٨.
بالخلاصة من كل ما تقدم ، لربما من الاهمية بمكان أن يبتعد الشعب الفلسطيني ومثقفوه عن التفكير في إطار ثنائي : أما / أو وكأنه ليس هنالك خيارات أخرى ، أو كأن الثنائيات غير قابلة للجسر أو للعمل معا في إطار من الوحدة التي يتم تصريف التوتر بين الثنائيات وممارسة النقد اللازم والضروري داخلها وليس بالانفكاك عنها والعمل كمحاور متوازية متحاربة ، ولقد سبق أن كتبت عن ذلك في " عرب ٤٨" ( الثنائيات الفلسطينية والعقلية السجالية ٣ آب ٢٠٢٠)، فالصراع لا يعني إلغاء الوحدة ، والعكس صحيح ، والتصارع داخل الوحدة هو ما يمكن من العمل معا ضد المشروع الاستيطاني الاستعماري غير المستعد لتقديم أي تنازل حتى لأكثر " المعتدلين " من الفلسطينيين . في ايرلندا الشمالية تعاون الجيش الجمهوري الايرلندي مع ذراعه السياسي ( الشين فين) رغم تحفظه على أدائه ومراهناته ومساوماته السياسية ، أفلا نستطيع في فلسطين أن نبتكر صيغة مشابهة لتقاسم الادوار بين الفاعلين السياسيين والدبلوماسيين وبين المكافحين في الميدان رغم التوتر المفهوم والطبيعي بين الطرفين ؟. بمعنى آخر هل نستطيع أن نتوحد على بدائل متفق عليها وممكنة تقع خارج ثنائيات أما الدولة الواحدة أو الدولتين ، وإما العودة أو تقرير المصير، وإما البناء الوطني أو التحرر الوطني كما طرحت سابقا في مقالة سابقة نشرتها وكالة معا ( وكالة معا : الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال بين التحرر الوطني والبناء الوطني ١٠ تموز ٢٠٢٠)، وذلك لنتجاوز لعنة تلك المقولة التي وسمتنا دوما واشار لها وليد الخالدي في مقدمة أحد كتبه وهي أن " العرب لم يستطيعوا التوحد أمام عدو خارجي قط "؟ . فهل نستطيع التوحد أخيرا ؟