الثلاثاء: 23/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

دموع غسان جرار نزفت دماً في وداع سهى

نشر بتاريخ: 19/07/2021 ( آخر تحديث: 19/07/2021 الساعة: 12:46 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

لن أكتب اليوم لغسان كلمات كبيرة في السياسة، ولا عناوين صارخة في المواقف، فقد كففت منذ زمن عن كتابة العناوين المدوية التي أصبحت لا أتقنها.. لذلك سأكتب عن زهرة غابت فجأة من بستان صديقي بلا مقدمات أو مؤشرات… سأكتب بلغة المشاعر، لأنها الأصدق من أية لغة، مشاعر تكتب ذاتها بدموعي التي استفزها وحرضها نزيف دموع غسان.

المسكون بإنسانيته الشفافة الموجوع حتى نخاع العظم بفقدان فلذة كبده، لم يذرف دموعاً كما يفعل الناس في المواقف الحزينة، وهذا أمر بدهي بالنسبة إلى تركيبة غسان الخاصة جداً، حيث لم يصادفني في هذه الحياة إنساناً يتكون من رأس من مشاعر وعظام وأعصاب من مشاعر.. أطراف وقلب وحواس ونَفَس وصوت وحس ونبض وهمس ودم ونخوة وألفة من مشاعر ومشاعر… لم أر مشاعراً على شكل جسم يمشي في الشارع ويذهب إلى السوق ويمارس طقوسه الحياتية سوى جسم مشاعر غسان، لذا فسيل دموعه لو فاض من عينيه، سيظل قاصراً وحيادياً أمام وجع مختلف تماما. لم يبك غسان بكاءً مراً وحارقاً، وإنما نزف دماً مستنفذاً رصيده من الحزن، دافعاً بفجيعته إلى ذروة ما يمكن أن يبلغه حزن إنساني على وجه هذا الكوكب. إنه الحزن القياسي بمنسوبه وعمقه واندفاعه وفورانه ونحيبه، أي حزن هذا الذي كان كفيلاً بإصابة الناس كل الناس بنوبات غير مسبوقة من بكاء ووجع؟!!

لن أكتب كلمات كبيرة مدوية، فربما تراجعت قدرتي على كتابة المواقف المركبة التي يتداخل فيها كل شيء في كل شيء، بل سأكتب بأبسط لغة إنسانية وأوضحها، لغة المشاعر التي لا تحتاج إلى مصطلحات أو اقتباسات نظرية معقدة، ولا تعنيها المقاربات بين الأفراد والتوجهات، بقدر ما تحتاج إلى إصبع مسلول من الروح، وحبر أحمر قانٍ مضخوخ من القلب. الإصبع يغلي ويغلي والحبر يتدفق في يدي قلقاً على مصيره، يجهل كيف سأسكبه على الورق، وأي ألم سأشعله من خلاله في الحروف. حبر قلق مذعور مقهور، وقلم شرب عميقاً من حزن غسان، وكاتب هو أنا لا يعرف إلى أين سيقوده نصه وهل سينجح في التعبير عمّا يجول في خاطره بأدواته الكتابية أم أن هذه الأدوات ستذوب تحت ضغطي أصابعه المنفعلة حدّ النحيب؟!!. سأكتب إذاً بلا أدوات فما حاجتي للأدوات!! وسأتحرر من معايير لطالما حرصت عليها في نصوصي.. سأكتب حتى لو لم أعرف إلى أين سيقودني نصي، أو إذا ما سأتمكن من إكماله دون أن أتوارى واختفي خلف نزيف صديق عتيق محترف مشاعر وتضامن، فكيف الحال وهو نفسه هذه المرة الحدث والحزن والفقد والفجيعة!!!

سألت نفسي سؤالاً مباشراً ما الذي يمكن أن أضيفه إلى ما قيل لغسان من قبل أصدقاء آخرين؟ وبسرعة البرق جاءني جوابي: لا بأس من الكتابة حتى لو تكررت الكلمات، فالتكرار يبلسم، والكلمة الطيبة تفعل فعل السحر في تجارب الفقد، و ثقتي كبيرة واستناداً إلى سيل من المعطيات أنني لن أكتب كلاماً مكرراً لمن كان في الاعتقال يمتلك جيداً مفاتيح نصوصي الأدبية ويدخل أبوابها ويشرع في تفكيكها والنفاذ إلى أعماقها أكثر من أي ناقد محترف. كان يتقن لعبة الإمساك بالدلالات وما خلف الجمل وذاك المختفي في الظلال البعيدة للنصوص. لم يكن مضطراً لمجاملتي لئلا يحرمني من ملاحظاته التي ترفع وتعمق، ملاحظات وإشارات محب يتمنى أن يخرج نص صديقه بأجمل ثوب من حيث الشكل وبأغنى مضمون. غسان لديه ما يكفيه من خبرات ليستخرج غير المكرر من بين سطوري، ليبني على ما كتبت، ذلك الذي لم أكتبه.

من بين الجمل الواضحة التي سأدونها في هذه اللحظة ما يحتاج إلى إضافة جمل ذهنية منه ليكتمل البناء. مثال: بالرغم من انشغالاتنا الشخصية وتباعد لقاءاتنا، إلا أننا في كل لقاء استرقناه من الزمن، كنا نتبارى في حديث الذكريات، واستدعاء المواقف الحزينة والمضحكة في الاعتقال وما بعده. مثال آخر: وجدت نفسي في الثلاثة عقود الأخيرة غارقاً في تحديات الحياة ومتطلباتها، ومضطراً لحل عقد بعض المشكلات التي استعصت عليّ قبل أن أتمكن منها، ولما كانت تشتد حلكة ليلي كنت أجده حاملاً شمعته على شكل اقتراح أو نصيحة أو تشجيع. وأنا بعد هذه السنوات أعترف بأنني تغيرت قليلاً.. تغيرت كثيراً، تغيرت طريقتي في التحليل والتعامل مع المواقف، تغير عدد لابأس به من أصدقائي بعد أن استبدلتهم بجدد -لأسبابي- وأخذت أميل يوماً بعد آخر إلى تمرين قلمي على المعالجات ذات الطابع المستقل، لدرجة أن استقلال الرأي والتفكير مهرّ مقالاتي وتحاليلي، منطلقاً من أن الكاتب والأديب ينبغي أن يكون محلقاً في فضاء لا حدود له، فيما أخرجت صداقة غسان من دائرة المتغيرات التي اجتاحتني، وبقيت محبته تزهر في بستاني كثابت. بقي بإنسانيته وحسه المرهف الثابت الذي يبرهن أن هناك نوعاً مختلفاً من الصداقات أقوى من المراحل والتصنيفات والمسميات، فالإنسانية العالية هنا هي صاحبة الكلمة الفصل.

في محنته التي هزت أعماق من عرفه ومن لم يعرفه أردت أن أقول كلاماً بسيطاً يواسيه في رحيل سهى وبلمسات أدبية مستجيباً لشغفه بالأدب وتحديداً في الأزمات، فهو عاشق إبداع بامتياز، وواكب مراحلي الكتابية، ويعرف جيداً أن قلمي ينطلق على سجيته في المواقف الإنسانية الحزينة، وله معي تجارب كثيرة في تحويل الوجع إلى نصوص أدبية، لكن أخشى أن أخذله هذه المرة وأخفق في رثاء زهرته بالمستوى الذي يليق بعطرها وبهائها، فالكلمات تتبعثر مني، وقلمي يتشتت، وأنا ألح عليه لكي يلملم إمكانياته المتشظية، لأكتب نصاً سريعاً عن سهى التي لم تمت، فأنا كاتب إذا لم يستثمر لحظته يضيع فرصته وتهرب منه، وقد يستغرق وقتاً طويلاً في البحث عنها… لا بد من نص يرصد غياباً طارئاً لسهى التي تنام نوماً قصيراً مؤقتاً لتصحو في اليوم التالي توزع عبقها في الزمان والمكان، كما كتبت نصاً ذات يوم عن الطفلة يافا التي نامت ليلة اعتقال والدها في1/1/1992 وهي تحلم بتمثال من ثلج عندما كان الندف يفرش رام الله بياضاً ناصعاً، وأفاقت في الصباح ملهوفة تبحث عن أبيها فلم تجده، ليظل تمثال الثلج مطلبها إلى أن تحقق بعد سنتين، عندما عاد الأب قابضاً على أول فرصة "ثلجية" لاحت في سماء رام الله.

عذراً بعد هذه المقدمات للذي ينتظر رثاءً، لن يجد جملاً مترنحة، لانعدام اقتناعي بهذه المهمة، فالاقتناع يعني اقتناعاً بالغياب، والاقتناع بالغياب يعني أن الزهرة سوف لاتعطرنا عبقاً، والعبق موجود، والعطر يفوح، والبستان يفتح صدره للفراشة، والفراشه مسكونة بالحركة، والحركة حياة.

لماذا الرثاء وسهى يتنسمها أبوها هواءً نقياً من رئتيه في كل لحظة، وينفثها في الفضاء حلماً جميلاً، لتتنطط خفيفة الجسم، بريئة، عصفورة مغردة، ترقب أمها، وتطرب أختها، وتفرد ريشها الجميل على امتداد بصر أبيها.. عصفورة تنثر من عليائها تغريداً تارة، وقصائد شعرية مخضبة بالحناء تارة أخرى. أردت اليوم أن أودع في قلب صديقي جملاً تلقائية تخفف بعضاً من اضطرام النار فيه، كما كان يودع في قلبي كلماته المداوية أوقات أزمات اجتماعية عانيتها، فيطفىء حريقي.. سأفتح دفتري في الحال لأختار منه جملاً مكتوبة بإصبع الروح، لعلها تجد طريقها إلى قلبه.

سأودع في قلب غسان نصاً سأنتهي منه في التو أوفي الغد أو بعد شهر أوسنة، عن عصفورة في عمر سنتين رأتْ الوطن في وجه أب كان يوزع الفرح على الناس من خلف القضبان، وستظل ترى الوجه ذاته في كل حالاته ما دام على الأرض بشر ومادام في ليلنا قمر.

الآن.. الآن.. سألتقط اللحظة المواتية لكي أنسج بساط كلماتي، بعد أن أتابع بعين الكاتب سهى العصفورة وهي تطير.. تهمس تغريداً.. تنادي تغريداً.. تبتسم تغريداً.. تستقبل الشروق تغريداً.. تشيع الغروب تغريداً.. تضمد بالتغريد جراح أمها في أسرها.. تغرد وتغرد مصرة على أن توقف بالتغريد نزيف دموع الأب المفتون بعصفورته.

ستظل سهى تطلق تغريداً مستمراً تحية لأم وأب وأخت في أسرة تتوزع جغرافياً في جهات مختلفة، في حين تلتئم روحياً بأربعة قلوب، فلا يوجد قلب بين القلوب الأربعة قد غادر موقعه في الأسرة.. لا يوجد.. لا يوجد.. لا...

وعليه لن أكتب يا غسان مرثية لسهى اليوم ولا في الغد، وإنما أكتفي بالقول لك:

"يا الله.. يا الله كم كان الموقف صعباً عليّ وأنا أجلس إلى جانبك أواسيك بوفاة فلذة كبدك.. كيف لا؟! وأنا الذي أصيغت لك طويلاً وكثيراً في زمن الاعتقال البعيد وأنت تصف لي كل حركة من حركات طفلتيك يافا وسهى، لتصبح أحاديثك قصصاً أكتبها. كنت بارعاً في سرد قصصك، تتحدث بلسانك وعينيك ويديك ونَفَس سيجارتك ومفردات لغة جسدك، وأنا محترف إصغاء لا أضيع شاردة ولا واردة، وحين أجلس مبحلقاً في ورقتي يخرج صمتي عن صمته ويبدأ في الصراخ بكل ما لديه من وجع.

اسمح لي الآن أن أعيد إصبع روحي إلى روحه وأتوقف عن محاولة الكتابة، ولا أدري.. لا أدري ما هو الأنسب في هذه اللحظة هل أصمت أم أصرخ.. لا أدري.. فعلاً لا أدري…".