الإثنين: 20/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

في ذكرى هزيمة حزيران

نشر بتاريخ: 07/06/2022 ( آخر تحديث: 07/06/2022 الساعة: 14:28 )

الكاتب: رائد محمد الدبعي


عدني أن يكون بيتي أول بيت تفكك أبوابه، فأبواب بيتي في اللد بحاجة ماسة إلى تغيير، هذا ما قاله عم والدي سعدات لنجار مخيم عسكر الجديد، أثر أخبار المعارك التي كانت تبث عبر الاذاعات العربية في حزيران 1967، والتي كانت تزدحم بالعنتريات والاكاذيب، والانتصارات الوهمية، فبينما كانت اذاعة صوت العرب تضلل الجماهير بشعارات عاطفية مثل " تجوَع يا سمك " وأسقطت طائراتنا عدد من طائرات العدو الصهيوني" كانت قوات الاحتلال تجتاح البلدة القديمة في القدس، وتحتل الخمس الأخير من فلسطين، وتشرع في هدم حي المغاربة، وتهجر قرى اللطرون الثلاث " بيت نوبا ويالو وعمواس" وتطرد جميع سكان قلقيلية وتشرع في هدم بيوتها، وتتقدم لتحتل الجولان السوري، وسيناء، فيما قامت بهدم منزل سعدات الدبعي واعتقلت ابنيه لسنوات عديدة بعد ذلك بأقل من سنة، بتهمة مشاركتهما في مقاومة الاحتلال.
في الذكرى السنوية الخامسة والخمسين على هزيمة حزيران، والتي أطلق عليها باسم " النكسة " للتخفيف من الاَثار النفسية المؤلمة لوقع الهزيمة التي حلت بأمتنا وشعبنا، وقادت نحو تغيرات واسعة في المشهد السياسي، لعل أبرز معالمه تراجع المد القومي لصالح الحلول القطرية، وتنامي سطوة معسكر التسوية مع الاحتلال مقابل معسكر المواجهة بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، وتأثيرات لا زالت ماثلة حتى يومنا هذا، فإننا بحاجة ماسة إلى وقفة جادة وعقلانية ومسؤولة لاستسقاء العبر، من خلال جرد حساب دقيق لكبواتنا خلال العقود الخمسة الماضية، وما نمتلكه من نقاط قوة، لتجاوز الأولى، والبناء على الثانية.
لا يبدو المشهد الفلسطيني بعد خمس وخمسين عاما على هزيمة حزيران مبشرا على جميع الأصعدة، فعلى الصعيد الداخلي يتعمق الإنقسام بشكل مضطرد، ويتحول مع مرور الزمن إلى انفصال يصعب تبديله بالأدوات المستخدمة خلال العقود الماضية، وتشهد منظمة التحرير الفلسطينية تحديات جسام، من خلال تغييب المجلس الوطني الفلسطيني، وتفويض صلاحياته للمجلس المركزي الغائب أصلا والذي منح صلاحيات تشريعية، وغياب الدور المرجو للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وتأجيل الإنتخابات الرئاسية والتشريعية لأجل غير مسمى، والتعويل على أخلاق المحتل او صحوة ضمير المجتمع الدولي من أجل تنظيمها في القدس، دون ممارسة أي فعل حقيقي من أجل تحقيق ذلك، وتراجع الدور التاريخي لليسار الفلسطيني، سواء على صعيد التأثير أو المعارضة، أو المساهمة الفكرية، واستطابة حركة حماس للوضع الراهن في قطاع غزة، الذي يضمن مصالح قيادتها المتنفذة، واستدامة سيطرتها العسكرية على القطاع، وتراجع دور المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، التي أغرق الكثير منها بالتمويل الأجنبي المشروط، فيما تناضل الأخرى منها من أجل البقاء، وفي ظل غياب رؤية وطنية موحدة، أو اتفاق وطني على الحد الأدنى، والضروري لعدم تكرار هزيمة حزيران، إذ أن ما تحققه الحركة الصهيونية من استغوال ممنهج في القدس، والأغوار، ومختلف محافظات الضفة الغربية، يشي بمستقبل مظلم، وهزائم جديدة، يضاف إلى كل ذلك أن معرفتنا بالحركة الصهيونية يكاد يكون سطحيا، ويرتكز أساسا على القشور، مقابل تفوق الحركة الصهيونية في دراسة كل ما يتعلق بالحضور الفلسطيني، أذ أسست الحركة الصهيونية مؤسسة اكتشاف فلسطين عام 1865، وهو الأمر الذي أسهم في وصول عدد المستوطنين إلى ما يقارب 900 ألف في الضفة الغربية .
كما أن الواقع الإقليمي الراهن، في ظل استفحال التطبيع العربي مع اسرائيل والمرشح للتوسع قريبا، وفي ظل ما يعتري الأمة العربية من تحديات جسام، وحروب أهلية، ومجاعات، ونقص في الأدوية، والطعام، والماء الصالح للشرب، والدواء، والقلم، والحرية، والكرامة، والتعددية، والتسامح، والعمل المشترك، المرتكز للمعلومة، والحكمة، والبحث العلمي، والأرقام الدقيقة، وتراجع الصراع الرئيسي مع الاحتلال لصالح صراعات هامشية مستحدثة، كالصراع في اليمن، والحرب الأهلية في سوريا، وليبيا، والصراعات الطائفية في العراق، وإعلاء الصراع الإيراني الخليجي، إلى مرتبة الصراع المركزي، كل هذا وغيره أسهم في تراجع القضية الفلسطينية.
عالميا، تتربع اليوم مجموعة من القضايا على أجندة المجتمع الدولي، لا تعتبر القضية الفلسطينية إحداها، لعل أبرزها الحرب الروسية في أوكرانيا، والصراع الأمريكي الصيني، والجبهة الساخنة في الكوريتين، وأزمة القمح، والوقود، وما خلفته من نتائج كارثية، ما زالت مرشحة للتفاعل مستقبلا، كما أن إدارة بايدن لا تبدي أي حماسة للتقدم في هذا الملف، وروسيا متورطة بشكل كامل في حربها الدائرة في أوكرانيا، والإتحاد الأوروبي يفتقر لرؤية موحدة حول الصراع، بل أنه يتبنى اليوم الشروط الإسرائيلية فيما يتعلق بتعديل المناهج الفلسطينية تحت ذريعة تحريضها على العنف.
في ظل كل ذلك، من المطلوب فلسطينيا اليوم، وضع مجموعة من الأهداف الموضوعية والمنطقية والقابلة للتنفيذ، والهادفة إلى الحفاظ على الحضور الفلسطيني على الأرض، وتوفير مقومات الحياة الكريمة للمواطن الفلسطيني، من خلال تحديد أولويات واضحة، في مقدمتها الوحدة الوطنية، إذ أن خيبتنا الكبرى بعد النكسة هي الإنقسام، الذي أضحى انفصالا، فيما من الممكن التركيز مثلا على وضع مخطط لوقف الاستيطان، وتبني نضالا وطنيا ضد كل المنظومة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس، عبر تبني برنامج نضالي مستمر، يقوم على العمل الميداني، والبناء المتراكم على الانجازات الصغيرة، وتوجيه كل أشكال النضال المشروعة بما فيها الكفاح المسلح ضد المستوطنين وجيش الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967، وهو الأمر الذي يبيحه القانون الدولي، ويتوافق مع حق الشعوب بمقاومة الاستعمار، إلا أن ذلك يتطلب في ذات الإطار، توافقا وطنيا حول اليات المقاومة، وأساليبها، بما يخدم الهدف المرجو، مما يستلزم مراجعة شاملة ومستمرة لتلك الأساليب، فإن كان الهدف الأساسي يتصف بالثبات، فإن الأدوات تتصف بالتغير المستمر، إذ أن المقاومة الشعبية السلمية قد تصلح في ظل ظروف ومعطيات محددة، بينما يصلح الكفاح المسلح في ظروف ومعطيات أخرى، وبالتالي فلا هذا يلغي ذاك، ولا أنصار هذا المعسكر خصوم مع أنصار المعسكر المكمل، كما أنه قد حان الوقت لمغادرة اللغة العاطفية الشعبوية التي أورثتنا هزائم متتالية، والارتكاز إلى لغة الأرقام والحقائق، ومخاطبة العقول، والإحتكام إلى ثقافة المؤسسة لا الفرد، والتفكير العميق بكيفية التحرر الجمعي من الأسر، لا التفاوض على تحسين شروط الزنزانة، والتفكير بعقلية المواطن ، لا عقلية العبيد، إذ أنه من العبودية والإساءة لنضال شعبنا وحقه بالمساواة القبول بتصنيف أبناء شعبنا إلى فئات يفرضها الاحتلال بعد اوسلو، فهذا " VIP، وذاك يحمل بطاقة BMC، وذاك بطاقته تمكنه من المرور بسيارته إلى الداخل المحتل، بينما اَخر يمنع من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، وكل ذلك يعتمد على تقييم الاحتلال ورضائه ودرجة التزام حامل البطاقة بتعليمات الاحتلال، هذا أمر يجب أن يتوقف تماما، كونه يمثل قبولا مخجلا بتصنيفات الاحتلال لشعبنا، كما أن توفير مقومات صمود المواطن تعني احترام ارادته، واحترام حقه بتقرير مستقبله، عبر التداعي لبرنامج نضالي موحد، يقود نحو اجبار الاحتلال على تنظيم الانتخابات في القدس، وهو الأمر الممكن إن توفرت الإرادة الحقيقية، إذ يغيب الحديث عن الإنتخابات العامة منذ تأجيل الانتخابات التشريعية في ايار الماضي، ولا تناقش إلا في لقاءات كبار المسؤولين مع الضيوف الدوليين، كما أن ذكرى الهزيمة تتطلب منح الضحايا الحقيقيين للانقسام المخجل دورا في القرار العام، وفي مقدمتهم النساء والشباب، الذين تخلوا منهم صفوف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بينما تخلو الحكومة والمجلس المركزي من الشباب.
حتى لا نبكي لا ما تبقى لنا من الوطن، ونرثيه كما رثينا اللد وحيفا ويافا وعكا وصفد، علينا أن نستجلب العبر بحكمة وعمق، وإلا فإننا وللأسف الشديد أمام هزيمة جديدة، قد نطلق عليها إسم جديد لنعزي أنفسنا وأجيالنا القادمة، فما نزرعه اليوم هو حصاد أبنائنا في الغد القريب .