الجمعة: 26/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة.. وكانتونات الفصائل

نشر بتاريخ: 20/05/2023 ( آخر تحديث: 20/05/2023 الساعة: 13:56 )

الكاتب: حميد قرمان

وضعت جولة التصعيد الأخيرة في قطاع غزة أوزارها.. تم اتفاق على هدنة، لكن جديد هذه المرة كان دخول حركة الجهاد الإسلامي على خط الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل، بعد أن تخلت مجددا (حماس – غزة) بقيادة يحيى السنوار عن حركة الجهاد الإسلامي التي تلقت الضربة الإسرائيلية منفردة.

كتبت سابقا في مقال لي نشر في هذه الصحيفة (“العرب” اللندنية) مقالا بعنوان: “مملكة حماس المنقسمة”، قلت فيه إن هدف (حماس – غزة) بقيادة السنوار من ترك الجهاد تواجه مصيرها مع إسرائيل هو إضعاف قوتها العسكرية، والحد من نفوذها داخل القطاع، وإيصال رسالة إلى النظام الإيراني بأن غزة محكومة من دكتاتور حماس الجديد فقط، الساعي لإبقاء حركة حماس القوة رقم واحد في قطاع غزة وبوابته، في تماه إسرائيلي مع طموحات السنوار التي أصبحت جلية.

صورة الفصائل الفلسطينية الهشة داخل القطاع، انعكست على الفضائيات الإخبارية بصورة ممزوجة معتادة، ليخرج قيادات وعناصر حماس والجهاد معا بمقابلات وبيانات صحفية وإعلامية يؤكدون فيها وحدة الميدان والقتال ضد التصعيد الإسرائيلي، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فالتصعيد وما تلاه من محاولات التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وصل إلى طرق مسدودة نتيجة تحييد (حماس – غزة) عن التصعيد واتفاق الهدنة، في سياسة إسرائيلية – حمساوية نجحت للمرة الثانية على التوالي. فإسرائيل تعلم حجم الجهاد الإسلامي في غزة، بل وتعلم أماكن قياداتها العسكرية التي من المفترض أن تكون تحركاتهم في الشارع الغزي على قدر كبير من السرية، رغم ذلك استطاعت أن تغتالهم، فهناك من سهّل المهمة لإسرائيل، وهناك من يريد إبقاء حركة الجهاد الإسلامي محدودة القدرات والعناصر، كما ذكر سابقا.

تحييد (حماس – غزة) قابله استبعاد كامل لـ(حماس – الخارج) خاصة بعد سد الأبواب أمام قيادتها التي كانت معزولة تماما عن أي اتصالات تجري داخل القطاع، وسُمح لها بلعب دور برتوكولي بتلقي اتصالات من وزير الخارجية الإيراني، والخروج بحرية لوسائل الإعلام لعكس الواقع المنقسم بينهم، حيث تم استبعادها تماما من المشهد مع إبقاء شعرة معاوية بين (حماس – غزة) وخارجية قطرية، التي لعبت دورا محدودا لإرضاء الإدارة الأميركية، التي أعطت الضوء الأخضر لحكومة بنيامين نتنياهو بمناورة عسكرية أكبر من خلال استهداف قيادات عسكرية على علاقة مباشرة بالنظام الإيراني.

هذا يفسر سعي إسرائيل لتكون الجهاد الإسلامي الطرف الوحيد في اتفاق “هدنة” جديد قاده المصريون منساقين وراء الهدف الإسرائيلي المتعنت بالتفاوض مع الجهاد الإسلامي بعيدا عن أيّ تعقيدات سياسية قد تطالب بها (حماس – غزة) أو السلطة الفلسطينية.

من هذا المنطلق نصل بوضوح إلى الواقع الذي رسخته إسرائيل وأجهزتها الأمنية داخل القطاع، بخلق كانتونات فصائلية سياسية وعسكرية متنافسة للوصول إلى اتفاقات ومكاسب أقل من سقف ما تدعيه هذه الفصائل المنادية بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فبالأمس عقدت (حماس – غزة) اتفاقات تهدئة مع إسرائيل مقابل 15 مليون دولار تأتي مباشرة بموافقة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع تفاهمات حياتية أخرى لم تغيّر حال القطاع المحاصر منذ انقلاب حماس العام 2006، واليوم تعقد الجهاد الإسلامي اتفاقيات تهدئة مع إسرائيل مقابل عدم اغتيال قادة عسكريين تابعين لها أو أسرهم، تحت بند عدم استهداف المدنيين.

المهزلة السياسية تكمن في أن قطاع غزة هذه المساحة الجغرافية الصغيرة، تحكمها ثلاث اتفاقات بين إسرائيل من طرف ومن الطرف المقابل السلطة الفلسطينية وحركة حماس والجهاد الإسلامي كل على حدة، ولن يتوقف الأمر على ذلك. فربما نشهد في قادم الأيام مخططا إسرائيليا جديدا وإبراز قوة عسكرية جديدة في القطاع تنافس حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تقدم أدوارا عسكرية تخدم السياسة الإسرائيلية في تفتيت القضية الفلسطينية بعدم تحقيق الكيانية السياسية للشعب الفلسطيني المتمثلة بإقامة دولته المستقلة.

إسرائيل بهذه الكانتونات الفصائلية التي أوجدتها في قطاع غزة وأعطتها وهم استقلالية المصالح تعتمد بتعاملها بشكل مباشر على شخوص بداخلها لتمرير سياساتها تجاه القطاع، في المقابل مشروع الراعي الإيراني لهذه الفصائل المبعثرة ما بين بيروت وغزة والضفة وعواصم إقليمية أخرى، فلا تعنيه القضية الفلسطينية أو المشروع السياسي للشعب الفلسطيني بقدر ما تخدم هذه الحالة مصالحه الإقليمية من خلال توسيع مناطق نفوذه، لتسمح له بخلق ضغط سياسي وعسكري يتيح له التفاوض على مشاريعه التوسعية في الإقليم.

المعضلة التي تواجه القضية الفلسطينية الآن تتمثل في وجود مشروعين؛ الأول، مشروع سياسي واقتصادي تطرحه منظمة التحرير الفلسطينية يتمثل بكينونة سياسية للشعب الفلسطيني موحدة بإقامة دولة مستقلة معترف بها دوليا على حدود الرابع من حزيران عام 1967، بدأ من اتفاق أوسلو.

والثاني، مشروع تسعى إليه فصائل ذات نسق ديني تدور بانسياق أعمى في فلك أجندات دول إقليمية باحثة عن مكانة سياسية على خارطة العالم الجديد، مستغلة حالة الغوغائية المؤيدة لها في تمرير مخططاتها من أجل أفكار سياسية بالية أكل عليها الدهر وشرب.