الكاتب: مروان اميل طوباسي
لقد اَن الأوان لأوروبا اكثر من اي وقت مضى أن تبحث عن دور مستقل لها وتبتعد عن تبعية السياسة الخارجية الأمريكية بشأن قضيتنا الوطنية وذلك بالرغم من الأزمات الأوروبية القائمة اليوم ، وأن تأخذ دورها وزمام المبادرة وتحاول القيام بما لم تقم به الولايات المتحدة لأعتبارات مختلفة كنت قد تحدثت عنها في مقالات سابقة .
المطلوب دور أوروبي يتفق ويتماثل مع الانظمة الأساسية لدولها كما ولأسس نشوء الأتحاد الأوروبي، بما يساهم في إعادة رسم العلاقة مع اسرائيل وممارسة الضغط الفعلي عليها للوصول إلى ما ينهي الظلم التاريخي الاستعماري بحق شعبنا ويحقق العدالة النسبية لقضية السلام والأمن والاستقرار بالمنطقة والحرية وحق تقرير المصير لشعبنا ويضع حدا لتطور نشؤ نظام فصل عنصري جديد بعد سقوط سابقه في جنوب إفريقيا .
والأهم الآن وقف هذا العدوان الجنوني من الابادة الجماعية ومحاولات التهجير الذي لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلا نسبيا له .
وحيث أن حكومة الأحتلال الاستعماري الإسرائيلي الجديدة اصبحت تحمل طابعا فاشيا دينيا اكثر وضوحا ومنفّراً للمجتمع الدولي وبالتأكيد لقيم ومبادئ الأتحاد الأوروبي النظرية تسقط فيها ادعاء "حالة احتلال عسكري مؤقت" ومقولة الادعاء "بديمقراطية اسرائيل"، فهي فرصة الآن أمام الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء لإعادة النظر بالعلاقة القائمة مع اسرائيل والتي تتمثل اساسا بالعلاقة الاستراتيجية بينهم سندا لاتفاقية الشراكة ولأشكال التعاون بالقطاعات المختلفة ومنها العسكري التي تعاقب عليها القواتين الدولية في مثل تلك الحالة .
ان معظم برلمانات دول الاتحاد الأوروبي كانت قد اتخذت قبل سنوات توصيات تدعوا حكوماتها للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة والمتواصلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية ، كما وايضا قرارات تتعلق بإدانة الاستيطان ومقاطعة منتوجاته، كما ودعا برلمانيين واحزاب تقدمية ونقابات وبلديات اوروبية الى فرض عقوبات على هذه الدولة العنصرية المارقة والتنديد بسياساتها الوحشية بكافة المحافل الدولية والاقليمية في مواجهة تداعيات استمرت اكثر من سبعة عقود ونيف منذ نشؤ هذه الدولة الأستعمارية التي تنفذ منذ البدايات مشروع التطهير العرقي والابرتهايد والاحلال السكاني لمصالح مجموعات استيطانية على حساب حقوق شعبنا الأصلي في أرضه .
الا انه وبالرغم من كل ذلك النهوض الشعبي الأوروبي والمظاهرات المليونية بالتضامن مع شعبنا، فقد استمرت حكومات دول الإتحاد الأوروبي في أتباع سياسات انتقائية تعتمد ازدواجية المعايير تجاه تداعيات الاحتلال الإسرائيلي بمقارنة مع القضايا الأخرى الناشئة بالعالم، بل والى مساواة الضحية بالجلاد كأساس للعديد من مواقفها اللفظية كما ولإشادة مسؤولين بالاتحاد الأوروبي "بنموذج ديمقراطية إسرائيل" لفترة طويلة من الزمن ، دون ان تتخذ رسميا قرارا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وفق تلك التوصيات ، رغم بعض المتغيرات التي اضطرت عليها حكوماتها مؤخرا وفق تلك المطالبات الشعبية وضغوطاتها .
ان على الأتحاد الأوروبي اليوم ان يدرك أمام صعود الفاشية الدينية في نظام دولة الاحتلال بشكل واضح وما له علاقة بذلك من اجراءات تتخذها حكومتهم بشأن تشريعات سابقة أضافت جوهرا عنصريا من خلال قانون قوميتهم اليهودية ، و سحب الجنسيات من الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل وتحديدا الأسرى منهم وقانون منع رفع العلم الفلسطيني التي اتخذت قبل العدوان الجاري . كل هذه الإجراءات وغيرها تتسم بشرعنة العنصرية وتشكل انتهاكات واضحة للقانون الدولي الإنساني والاعلان الأساسي لحقوق الإنسان الذي يفترض ان يمثل جوهر الثقافة الأوروبية ومبادئ الأساسية لنشؤ الأتحاد الأوروبي ، اضافة الى ان كل هذه الإجراءات تشكل خطرا على استقرار المجتمعات الأوروبية نفسها من جهة اخرى .
ان ما يجري اليوم من عدوان الابادة بشراكة أمريكية بالجوهر والشكل والمضمون ، يؤكد للقاصي والداني ولكل دعاة الديمقراطية بالغرب، أن "دولة" قامت على أساس التطهير العرقي وفكر الأستعمار الأستيطاني بعد ٧٦ عاما دون مسائلة من النظام الدولي القائم بل وبتشجيع على ارتكاب جرائمها، أن يَتسم النظام السياسي فيها الاَن بأعلى أشكال الفكر الصهيوني الفاشي وتصاعد أزماتها الداخلية والفوضى السياسية وبالإصرار على تطويع تشريعاتها ونظامها القضائي على هذا الأساس من جهة ، وعلى محاولات استكمال تنفيذ مشروعها الصهيوني التلمودي في "إسرائيل الكبرى" الذي تنفذه على قدم وساق ، مما قد يزيد من تهديد الاستقرار بالمنطقة والتوحش ضد ابناء شعبنا ، الأمر الذي يعني عدم الاستقرار والأمن المطلق لهم وللمنطقة من جهة اخرى .
لقد كان لأعلان نتنياهو منذ البداية أن حكومته الجديدة ستعمل وفقاً لعدد من التوجهات من أبرزها، "أن للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء "أرض إسرائيل الكبرى"، بحيث تشجع الحكومة توسيع الوجود اليهودي فيها لضمان الاغلبية الديمغرافية الاستعمارية ، أجرا كان يجب أن يقرع ناقوس الخطر متذ ذلك الوقت أمام الأتحاد الأوروبي وغيرهم من حجم التداعيات الخطيرة المترتبة على ذلك التي نراها اليوم المتمثلة بارتفاع وتيرة جرائمها اليومية ضد شعبنا وفق ما هو حاصل الان من جريمة التطهير العرقي التي تجري مكوناتها امام العالم بمن فيهم العرب .
فإذا كانت الدول الأوروبية من خلال الأتحاد الأوروبي لا تزال تعتقد بعد كل تلك المتغيرات الجارية و التصريحات الصادرة عن رئيس حكومة دولة الاحتلال الاستعماري وتصاعد الجرائم على الأرض في غزة والضفة بما فيها القدس ، أنه من الممكن تنفيذ تصور "حل الدولتين" كخيار اممي وفق القرارات الدولية ، فإن العديد من المبادرات المفيدة والضرورية في هذا الإتجاه قد تكون متاحة امام الأوروبيين أنفسهم على الفور لمواجهة هذا الموقف.
ورغم ان ما تبقى من ارض فلسطينية محتلة دون استيطان لا يساهم في تنفيذ إقامة دولتنا وفق القرارات الدولية ، وحتى لا يبقى الأمر متعلقا بتصريحات أو ببيانات لفظية تَتخِذ في بعض الأحيان شكل النفاق السياسي ، فيمكنهم اولاً مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية وتقديم تطبيق عملي لدعم وتعزيز شرعية مبدأ حل الدولتين من خلال الانضمام إلى الدول التي اعترفت بدولة فلسطين على حدود ما قبل ٤ حزيران ١٩٧٦ وعاصمتها القدس الشرقية وكما بقرار ١٩٤ المتعلق بقضية لاجئينا . والأكثر أهمية طالما انهم قادرون على فرض عقوبات على دول مختلفة ، فبأمكانهم فرض عقوبات اقتصادية وكذلك سياسية على إسرائيل وتكثيفها حتى تمتثل إسرائيل القوة القائمة بالأحتلال الاستعماري للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتوقف عدوان الابادة ومشاريع التهجير المخطط لها ، على طريق انهاء الأحتلال اولاً قبل الحديث عن مبادرات سياسية لاحقة للسلام إضافة إلى وقف الاستيطان الذي يتخذون اليوم قرارات بتوسعته ، واسقاط أشكال الفصل العنصري باعتباره جريمة اخرى .
اما اذا كانت الدول الأوروبية ما زالت تعيش عقدة الخوف من املاءات الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية بعد مشروع مارشال ، ومن المال اليهودي او من فزاعة معاداة السامية والهولوكست ، وهي بذلك غير مستعدة لاتخاذ مثل هذه المبادرات العملية ، أو إذا كانت قد توصلت إلى قناعة بأن "حل الدولتين" لم يعد ممكناً وأن القضية الوحيدة الآن هي ما إذا كان واقع الدولة الواحدة الحالي سيستمر كحقيقة نظام فصل عنصري إسرائيلي بفوقية يهودية ، هو ما يمكن تحويله إلى واقع ديمقراطي كما قد يعتقد البعض منهم ، فيجب عليهم التفكير في تاريخهم الأوروبي ومسؤولياتهم من أجل تحديد الطريقة الأكثر فائدة للمضي قدما بذلك حتى تتوفر الديمقراطية والعدالة والحقوق المتساوية في دولة واحدة . وهو نموذج قد يكون أكثر واقعية امام بعض الأوروبيين من أجل السلام بعيدا عن اشكال الفوقية والأضطهاد القومي بدلاً من الإستمرار في إعادة تدوير عملية سلام مفترضة لا تجد شريكاً اسرائيلياً وقائمة على تقسيم الأرض وتوسيع الأستيطان والتهويد والابادة والتهجير في اَن واحد .
إن التساؤل يتعلق بحلفاء دولة الاحتلال الغربيين في أوروبا الذين لطالما أشادوا بالقيم المشتركة معها لإخفاء تنكرهم للقضية الفلسطينية، لكن هذه القيم بات من المستحيل اليوم أكثر من أي وقت مضى العثور عليها او اخفائها تحت مبررات الأمن والدفاع عن النفس للمجتمع الإسرائيلي امام التطور الجاري بشكل وجوهر النظام في اسرائيل وسياسات حكومته من سياسات الابادة الجماعية ووقوفها في قفص العدالة الدولية .
يجب الآن على الأوروبيين التحلي بالجرأة الاخلاقية والسياسية والتشكيك في الافتراضات القديمة، بما في ذلك مقولة "نجاح التجربة الصهيونية الديمقراطية" التي ساهم الغرب بالترويج لها بل وبالدفاع عنها، فالحقيقة الراسخة هي أن الصهيونية كانت ولا تزال فكرا عنصريا وحلماً معاديا للسامية نفسها ، مما يوفر الأمل في مواجهتها أوروبيا اليوم وامكانية حث اليهود على المغادرة او الهجرة المعاكسة والانتقال إلى مكان آخر للعيش به والعودة إلى مواطنهم الأصلية بأوروبا وغيرها بدلاً من الاستمرار في معارضة العدالة الإنسانية والقانون الدولي والانساني من خلال الدعم المطلق لتجربة أستيطانية عرقية ودينية استعمارية التي تتصاعد اليوم إلى الفاشية من خلال الابادة الجماعية ومحاولات التهجير متعدد الاسباب .
ان ذلك سوف يعكس اعترافًا أخلاقيا وسياسيا أوروبيا بأن الصهيونية كحركة سياسية، مثل بعض "المذاهب السياسية" كالنازية التي برزت في القرن العشرين والتي استحوذت على خيال الملايين، كانت افكار عنصرية عادت بالضرر على جموع البشرية بشكل مأساوي .
وهي طريقة ايضا للتكفير عن خطايا أوروبا السابقة ضد فقراء اليهود التي تنعكس بشكل غير عادل على حقوقنا الوطنية الثابتة ، من خلال الترحيب باليهود الإسرائيليين لإعادة توطينهم في الدول الأوروبية، وهو اجراء منطقي لن يعارضه سوى الأشخاص المعادين للسامية أو الصهاينة الذين يسعون لبناء نظام الفصل العنصري الجديد في ارض فلسطين التاريخية سياسيا وبتعبيرات "مملكة اليهود" تلموديا ودينيا.
ولذلك على الأوروبيين ان يدركوا بشكل واضح ان لا احتلال بلا ثمن وان المقاومة هي حق للشعوب المضطهدة ، كما كان كذلك في أوروبا سابقا ، وان الحرية لشعبنا الفلسطيني وحقه بتقرير المصير يستدعي مواقف سياسية مبدئية تختلف عما شاهدناه سابقا وحتى الآن بشأن الحديث اللفظي عن حل الدولتين دون حديث عن انهاء الاحتلال فيصبح ضربا من الخيال . حيث ان تمكين شعبنا من حقه بتقرير المصير وسيادته فوق ترابه الوطني دون وجود احتلال وفق الحقوق التاريخية والقرارات الدولية هو الضامن الوحيد للحلول التي يحاول الأوروبيين المساهمة فيها ، وهو الحل الوحيد لإنهاء الصراع القائم وإحلال الحرية والأمن والعدالة الأمر الذي لن يشكل فقط مصلحة لمستقبل الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي فقط بل مصلحة في اسقاط الفصل العنصري كنظام ومصلحة أيضا لاسقاط ووقف جرائم الابادة الجماعية ، امام كل الأوروبيين في شرق المتوسط الذين يعيشوا في جوارنا ، ومصلحة لقضايا الأمن والسلم الدوليين ، بافتراض قيامنا نحن اولاً بمسوؤلياتنا الوطنية في توحيد جهود كل ابناء شعبنا للوصول إلى الشعوب الأوروبية، والسير قدما في تحقيق التحرر الوطني الديمقراطي وحماية شعبنا على كل المستويات .