الكاتب: عواد الجعفري
في مثل هذه الأيام قبل 31 عاما، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي اتفاقية أوسلو، ووقعت المنظمة في أسوأ خطيئة لها على الإطلاق.
لقد مرت عقود من الزمن على ذلك الاتفاق، الذي قيل إنه مجرد مبادئ ومؤقت، وجرت مياه كثيرة في تيار الحياة الفلسطينية حتى بات بالنسبة إلى البعض اسم منظمة التحرير يعني شيئا ضاربا بالقدم لا صلة بالحاضر.
حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة حاضرة، ولا تغيب عن بالنا لحظة، وكتب فيها ما كتبنا، لكن هذا لا يعني ألا نلتفت إلى الماضي، ففهمه والتأمل فيه خطوة مهمة لفهم الحاضر وتلمس الطريق نحو المستقبل.
إسرائيليا، كانت المكاسب من الاتفاقية أكثر من أن تحصى (المعنى الحرفي للعبارة)، وهم أي الإسرائيليون لا يمرون مرور الكرام على أحداث جسام كهذه، فيكتبون ويناقشون كل جوانبها، عل في ذلك درس وعظة، ولا يجب أن نكون أقل منهم في ذلك.
وعلى سبيل المثال، أجرى المفاوض الإسرائيلي البارز يوسي بيلين مقابلة قبل سنوات في ذكرى الاتفاقية، قال فيها إن أوسلو "غيّرت من وجه الشرق الأوسط"، إذ أتاحت إمكانية عقد معاهدة سلام مع الأردن، وأوجدت عنوانا بديلا للشعب الفلسطيني هو السلطة الفلسطينية، وفتحت المجال أمام إقامة علاقات دبلوماسية مع عديد من الدول بما في ذلك دول عربية، وعلى سبيل المثال أقامت إسرائيل خلال عام واحد من الاتفاقية علاقات دبلوماسية مع 20 دولة حول العالم.
وخففت الاتفاقية أعباء السكان الفلسطينيين التي كان يتولاها الاحتلال الإسرائيلي، إذ ألقيت هذه الأعباء على عاتق السلطة الفلسطينية، وساهم الأمر من بين أمور أخرى في ازدهار اقتصادي غير مسبوق في إسرائيل.
وأحدثت أوسلو تحسنا كبيراً في صورة الدولة العبرية في العالم، فها هي قد وقعت اتفاقية مع الذين كانوا يعانون من احتلالها، فلماذا لا تقيمون معنا علاقات دبلوماسية يا دول العالم، إذا كان أصحاب القضية قد أبرموا اتفاقية معنا؟ هذا منطق إسرائيل، لكنه منطق مضلل فالمنظمة هي التي وقّعت وليس الشعب (وبالطبع ليس المنظمة كلها).
وربما هذا كان المكسب الأكبر في الاتفاقية، فإسرائيل نالت اعترافاً بحقها في الوجود من ممثلي الناس القابعين تحت احتلالها، وماذا؟ دون أن تنهي الاحتلال ودون أن تقر بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني. هذه مكاسب لم يحلم بها أي محتل من قبل.
المكاسب لا تتوقف، فقد ربحت إسرائيل من الاتفاقية وقف الانتفاضة الأولى، أي أن الضغط الشعبي في الأراضي المحتلة توقف.
أضف إلى ذلك، كانت أوسلو غطاءً استغلته إسرائيل لفرض حقائق على الأرض وخاصة الاستيطان، ولم تنتبه قيادة المنظمة لخطورة الأمر إلا بعد وقت طويل حيث باتت تطالب بوقف الاستيطان، لكنه كان قد تمدد وتفشى مثل السرطان بالضفة الغربية والقدس المحتلين.
إن الذين وقعوا الاتفاقية لم يستشيروا شعبهم، لا بل إن شعبهم كان آخر من يعلم، وكان ثمة معارضة للاتفاقية داخل المنظمة، وهذه المعارضة خاصة تلك التي كانت خارج المنظمة زرعت بذور الشقاق داخل المجتمع الفلسطيني، وما لبثت أن كبرت هذه البذور وترعرعت وأصبح اسمها "الانقسام"، فالذين وقّعوا الاتفاق كان عليهم أن يجروا استفتاءً على الاتفاقية المصيرية بهذا الحجم أو أن يتشاوروا مع كل الفصائل. هذا لم يحدث وكان الانقسام نتيجة أكيدة لذلك، وبالطبع صب الأمر في مصلحة إسرائيل.
في المقابل، منظمة التحرير الفلسطينية لم تحقق الكثير من الاتفاقية، وبالأحرى نالت أقل مما هو فتات، فالتنازل الضخم وغير المسبوق الذي قدمته لإسرائيل بالاعتراف بوجوده على مساحة 78% من فلسطين التاريخية، وتجاهل الظلم التاريخي بحق الشعب الفلسطيني في الاتفاقية، لم يقابل بتنازل إسرائيلي مماثل كأن يعترف الاحتلال بالدولة الفلسطينية وبالظلم التاريخي.
لم تشمل اتفاقية أوسلو على إقامة دولة فلسطينية (راجعوا نص الاتفاقية فكثيرون لم يطلعوا عليها ويجادلون بشأنها). المفاوض الراحل، صائب عريقات، قال إنه كان يجب ربط إقامة الدولة الفلسطينية بالموافقة على اتفاقية أوسلو، وجاءت تصريحات بعد سنوات من توقيع الاتفاقية.
إن اتفاقية أوسلو نصت على إقامة حكم ذاتي فلسطيني محدود الصلاحيات، وهو العرض الذي كررته إسرائيل قبل أوسلو بكثير، في المقابل، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تتحدث في الفترة عينها عن دولة (مع اختلاف صيغتها ومساحتها). المعنى أن المنظمة هي التي تراجعت فقط في مفاوضات أوسلو وليس إسرائيل، وهذا يضرب جوهر المفاوضات التي يجب أن تحقق مصالح الطرفين، فإذا بها تحقق مصالح طرف واحد فقط.
وحققت المنظمة مكاسب آنية حينها، تلاشت مع الزمن، مثل إخراجها من عزلتها التي أعقبت حرب الخليج، وتجاوز فكرة القيادة البديلة في الأرض المحتلة التي كانت تعتقد -خاطئة- أنها تنافسها على قيادة الشعب الفلسطيني، وأصبحت لهذه القيادة سلطة على الأرض الفلسطينية، وإن كانت محدودة، لكن هذه المزايا تبخرت بمرور الزمن بفعل سوء الإدارة والاحتلال وغيرهما.
بالطبع، الشعب الفلسطيني لم يكن مسؤولا عن سوء إدارة أموال منظمة التحرير طوال عقود ولا الأزمة التي أوقعت فيها المنظمة نفسها في حرب الخليج ولا سوء إدارة المفاوضات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
الغريب أن منظمة التحرير لا تزال متمسكة بالاتفاقية، رغم أن الإسرائيليين مزقوها مرات ومرات وصولا إلى حرب الإبادة المستمرة في غزة، وربما يفسر ذلك أن المنظمة باتت مكبلة الأيدي بحيث لا تستطيع العودة عن قرار خاطئ أخذته قبل 30 عاما. إن العبرة في تلك التجربة المريرة هي الوحدة الوطنية والعودة إلى الشعب في الأمور المصيرية.