الكاتب:
يونس العموري
المادة (8) من الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية واضحة وصريحة وتنص على أن ( اﻟﻤﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻴﺸﻬﺎ اﻟﺸﻌﺐ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ هي ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻜﻔﺎح اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت ﺑﻴﻦ اﻟﻘﻮى اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ هي ﻣﻦ ﻧﻮع اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﻮﻗﻒ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ اﻷﺳﺎﺳﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻦ اﻟﺼﻬﻴﻮﻧﻴﺔ واﻻﺳﺘﻌﻤﺎر ﻣﻦ ﺟﻬﺔ وﺑﻴﻦ اﻟﺸﻌﺐ اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻲ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ، وﻋﻠﻰ هذا اﻷﺳﺎس ﻓﺈن الجماهير اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ ﺳﻮاء ﻣﻦ كان ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ أرض اﻟﻮﻃﻦ أو ﻓﻲ اﻟﻤﻬﺎﺟﺮ ﺗﺸﻜﻞ ﻣﻨﻈﻤﺎت وأﻓﺮاد ﺟﺒﻬﺔ وﻃﻨﻴﺔ واﺣﺪة ﺗﻌﻤﻞ ﻻﺳﺘﺮداد ﻓﻠﺴﻄﻴﻦ وتحريرها ﺑﺎﻟﻜﻔﺎح اﻟﻤﺴﻠﺢ.”
بالتالي كانت ولا زالت القوانين الحاكمة للمرحلة بالأساس هي قوانين التحرر الوطني، الا ان السياسة الاحترافية قد سيطرت على المشهد عموما، وصارت تحاكي وقائع المرحلة بغير قوانينها مما نجم عن ذلك اختلال واضح بالتعاطي ومعطيات وافرازات الصراع وبالتالي متطلبات قوانين ذات المرحلة. وهنا يتصارع فن الممكن سياسيا وفن المستحيل، وبهذا السياق ووفقا لوقائع المرحلة الراهنة وظروفها التي لا تخفي على أحد، حيث الشرذمة الفلسطينية والانقسام وضياع بوصلة الوحدة والتوحد وهلامية منظمة التحرير الفلسطينية، وهيمنة السلطة الوطنية بمؤسساتها على مؤسسات المنظمة.
جاء قرار القيادة لانعقاد المجلس المركزي في رام الله ليخلق حالة جدل جديدة، والأمر الذي أثار الكثير من الحوار والسجال والتساؤل حول جدوى انعقاده في ظل كل هذه الصراعات ودون إنجاز الحد الأدنى من التوافق على برامج العمل الوطني وترميم العلاقات ما بين فصائل منظمة التحرير، وديكتاتورية الجغرافيا التي بلا أدنى شك تفرض نفسها وهي العامل الموضوعي الذي كان يؤخذ بالحسبان عند التحضير لأي دورة من دورات المجلس الوطني او المجلس المركزي سابقا.
والسؤال الكبير هنا: هل من شأن انعقاد المجلس برام الله أن يفرض على المجلس معطيات جديدة؟ وهل من الممكن ان تتحكم رام الله عاصمة السلطة الوطنية الفلسطينية بمجريات أعمال المجلس؟ وأعضاء المجلس في الشتات هل سيصلون الى رام الله؟ والمقصود هنا كل هؤلاء (أعضاء المجلس المركزي) الذين ما زال لهم وجهة نظر متناقضة وإفرازات رام الله العاصمة.
وتجيء هذه الدورة لعدة أهداف لعل أهمها إعادة رسم خارطة القيادة الرسمية الفلسطينية واستحداث منصب نائب الرئيس وصلاحياته وإنقاذ البرنامج السياسي الفاشل لمسار التسوية، حيث ان المسار التسووي ضمن قوانين اللعبة التي كانت سائدة ما بعد مؤتمر مدريد لما يسمى بالسلام وصل الى نهايته وأضحى هذا المسار والمضي به شكلا من أشكال الخروج عن الثوابت والحقوق التاريخية الوطنية للشعب الفلسطيني بصرف النظر عن التوصيف الدقيق لوقائع هذا التمسك بالمسار، وان كانت الأطروحات حتى اللحظة من قبل مختلف التشكيلات المختلفة للقيادة الرسمية لم تغادر تماما خيارات التسوية السياسة على قاعدة المفاوضات وبأشكال مختلفة وبألوان أخرى من خلال البحث عن وسطاء آخرين ، والذريعة هنا تكمن بفن الممكن سياسيا وتحقيقه .
وما بين فن الممكن وفن المستحيل تكمن الحكاية الفلسطينية بكل فصولها، حيث باتت عبارة فن الممكن وتحقيق الممكن من خلال المسيرة التسووية هي الشغل الشاغل لقادة الرأي والموقف الفلسطيني.
ومن خلال رصد وقائع الحركة السياسية المعاصرة بكافة مراحلها في الأراضي الفلسطينية المحتلة نلاحظ ان العمل السياسي بكافة دهاليزه وأطره قد أصبح سياسة لفن الممكن حفاظا على مصالح بعض مراكز القوى المتنفذة على مختلف مستوياتها وأشكالها، بل ان العمل السياسي قد تحول وفي الكثير من الدوائر لفن تحقيق الوصول عبر الموقع التنفيذي أو التشريعي، الى أعلى المراتب، وتأمين وظائف للأبناء والأقارب، وتحقيق المصالح ذات الطابع الشخصي والفردي، وحتى المصالح التنظيمية الحزبية على أرضية الحسابات الفصائلية ومصالحها أولا، وإهمال القضايا ذات الاتصال المباشر بالجمهور والتي لها علاقة مباشرة بنبض وجوده واستمراره وتوفير مقومات الصمود والانتقال من حالة ردة الفعل الى حالة الفعل والمبادرة على طريق تحقيق تطلعات وطموحات الجماهير الرابضة تحت نير الاحتلال.
وهنا لابد من إجراء مراجعة فكرية سياسية لماهية الواقع المعاش بالظرف الراهن، وهل أصبحت سياسات فن الممكن هي حجر الزاوية الأساسي التي تتحكم بمسار العمل الوطني؟ واعتقد أننا بحاجة لإعادة صياغة مفاهيم العمل السياسي الفلسطيني من جديد على قاعدة إعادة توصيف طبيعة المرحلة ذاتها حيث مقولة ان السياسة فن الممكن قد باتت تتردد على السنة الكثير من الأكاديميين الفلسطينيين والعرب الذين يحترفون دراسة العلوم السياسية وفقا لنظريات سياسية غربية لها أهداف تطبيقية بعيدة المدى على مستوى المنطقة ككل، تصب في خانة استعمار الشعوب والسيطرة على مقدراتها عن طريق فعل التدجين والتهجين للجماهير وإحالتها الى حالة شعبوية مستهلكة لكل ما من شأنه ان يخدم أهداف ما وراء نظريات (الممكن) في إطار سياسات فن الممكن، ومحاولة الإيحاء بأن إنجاز التغيير المطلوب وإنجاز أهداف عملية التحرير وتحقيق سيادة الشعوب على أرضها وتقرير مصائرها واحدة من المستحيلات وبالتالي يتم دفع الشعوب بكافة قواها وفعالياتها الحية نحو العمل السياسي ضمن هوامش فن الممكن تحقيقه من خلال هكذا نظريات مصممة على مقاسات أنظمة الحكم المتناغمة ومصالح رعاة المنطقة وبالتالي مشاريعها.
الا ان الحالة الفلسطينية من المفروض أنها مختلفة ولا أساس لنظريات سياسات فن الممكن في أجندة التعاطي السياسي والقضية الفلسطينية ذاتها، على اعتبار أنها قضية تخضع لمنطق الصراع بين الظالم والمظلوم، ما بين الاحتلال والجماهير الفلسطينية التي أبدعت وابتدعت كل أشكال الفعل والفعل المقاوم، وكانت ان أطرت ذاتها في بوتقة الفعل الكفاحي من خلال إنجاز الإطار الثوري الذي اعتمد النظرية الثورية ذات الطابع النضالي كأسلوب للتصدي لسياسات الاحتلال ومحاولته طمس هوية شعبنا الحضارية العروبية، وبالتالي اعتمد على فنون العمل الثوري والذي ما كان يوصف بفن المستحيل. وما بين فن الممكن وفن المستحيل خضعت فصول الحكاية الفلسطينية للشد والجذب، والمستحيل هنا ليس المقصود به استحالة تحقيق أهداف الشعوب بل إنها عملية تغيير شاقة للواقع السيئ المُعاش، حيث أن انطلاق العمل الثوري وإعلان حالة العصيان وبكافة السبل والوسائل الممكنة والمتاحة في وجه الاحتلال وسياساته يعتبر الطريق الوحيد التي على الشعوب السير فيه ومن خلاله، وإلا فإن مصيره سيكون ضياع هويته وطمس معالم وجوده الإنسانية والحضارية.
وغالبا ما يكون الظالم (الاحتلال) ذا قوة مادية جبارة وغالبا ما يكون المظلوم (المُحتل) ضعيف الحال المادي وحيث ذلك فإن عبارة السياسة فن الممكن تعطي المظلوم جرعة من الجبن والتخاذل كي يكسر إرادته للظالم ويستسلم له، لكن إذا ما حسبنا الإمكانيات الروحية للمظلوم فنجد أنها هائلة لأن إحساسه بالظلم له رد فعل عكسية حسب القانون الثالث لنيوتن (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه) أي أن المظلوم يملك بحسب القانون المذكور طاقة روحية (تتحول إلى طاقة مادية) تعادل طاقة الظالم القوي الجبار.
إن عبارة السياسة فن الممكن قامت عليها كل الاتفاقيات السياسية للأمة من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل واتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل إلى اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وما خفي لربما يكون الأعظم.
مرة أخرى اعتقد ان الحالة فلسطينية بحاجة الى ثورة على وقائع وتفاصيل سياسات فن الممكن الراهنة التي باتت مسيطرة على العقل السياسي وفلسفته اتجاه مختلف قضايانا الأساسية والجوهرية وبهذا السياق لابد من إعادة تموضع جديدة لفن الثورة والمقاومة ونبذ قوانين احتراف العمل السياسي ودهاليزه التي أصبحت تثقل كاهل قضيتنا وتحملها ما لا يمكن احتماله كالالتزام بقوانين العمل السياسي الدبلوماسي وأصوله.
إن عبارة (السياسة فن الممكن) هي جزء من سياسات القوى الاستعمارية لضمان الخنوع والاستكانة لأجندتها في سبيل إنجاز التخاذل والاستسلام. وإطفاء جذوة المقاومة بكافة أشكالها.
من هنا ومن خلال هذه المطالعة اعتقد ان المجلس الوطني وهو المشرعن للنظرية النضالية الفلسطينية ولقوانين الحالة الراهنة إذا كان لا بدّ له من الانعقاد فلا بدّ أن ينعقد أولا في مكان يضمن وصول الغالبية الساحقة من أعضائه، وثانيا لابد له ان يعمل على إنجاز برامجه التوافقية ما بين الكل الوطني في أتون الإنخراط بالعملية الكفاحية ضد الاحتلال ، ولا بدّ له ان يدرك ان لا انتخابات لبرلمان الثورة الفلسطينية ( منظمة التحرير ) اذا ما اعترفنا أننا ما زلنا نعايش مرحلة التحرر الوطني من خلال الثورة والمقاومة ، وهنا تصبح عمليات فرز القيادة الناظمة للعملية النضالية وفقا للتشريعات والمفاهيم الناظمة للمسار الوطني ما يصدر عن قرارات المجلس الوطني، حيث ان المجلس ما هو الا حالة توافقيه اتفاقية للجبهة الوطنية في إطار المنظمة تتشكل من الكل، فصائل واتحادات ومؤسسات وقوى شعبية ومكونات جماهيرية ونقابية وفعاليات وشخصيات عامة وعاملة على مختلف ساحات التواجد الفلسطيني، وأيضا لابد من الإدراك ان التنظيمات والفصائل الفلسطينية المنخرطة في إطار المجلس الوطني لا تشكل ما مقداره نصف أعضاء المجلس وربما أقل. والمسألة هنا ليست مسألة تأمين النصاب القانوني لانعقاد المجلس، إذا لا بدّ من توفير النصاب التوافقي الوطني بعيدا عن الحسابات العددية للنصاب القانوني، فكيف من الممكن انعقاد المجلس في ظل مقاطعة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مثلا؟ او الفعاليات والشخصيات الوطنية المستقلة الفاعلة؟ وأين هي حالة التوافق التي من المفروض تقديمها لجلسات المجلس كنتيجة طبيعية للتوافق الوطني سياسيا أو حتى على الهيئات القيادية كما جرت العادة والتي أصبحت من أعراف وتقاليد المجلس الوطني عموما؟