الكاتب: جمال زقوت
قبل وفاته، طالما كان الراحل الكبير د. حيدر عبد الشافي يردد لمحدثيه بأن جوهر الأزمة الفلسطينية يتلخص في غياب احتكام السياسيين للمبادئ الأخلاقية. كان هذا الزعيم الفلسطيني النبيل يعتبر أن الصدق والشفافية هما أساس الثقة بين القائد وشعبه، ويرى أن فقدان الأخلاق يقود حتمًا إلى فقدان القضية، كما كان يُشدد على أنه "لا يمكن أن نقيم وطناً حراً دون أن نبني إنساناً حراً أخلاقياً" أي أن تحرير الأرض لا ينفصل عن بناء الإنسان القيميّ.
في خطابه الشهير خلال مفاوضات مدريد 1991، شدد حيدر على أن العدل والالتزام بالحق يجب أن يكونا المرجعية الأولى لأي تفاوض أو اتفاق، مؤكداً على "نحن لا نطلب السلام لأننا ضعفاء، بل لأننا نؤمن بالعدل والحق والكرامة الإنسانية. ولا يمكن أن يقوم سلام حقيقي إلا على الصدق والاحترام المتبادل".
كان أبو خالد نموذجاً للقائد الذي يمثل الضمير الوطني، وطراز فريد من القادة ينطلق من المكاشفة في علاقته بالناس، مؤكدًا في ممارسته السياسية على مقولته " لا أستطيع أن أتصور قيادة وطنية لا تقوم على الصدق مع الناس. الخداع وإن حقق مكسباً آنياً، يُدمر القضية في المدى البعيد" وفي محاضرة له في غزة عام 1996 حول بناء الدولة قال:" لا يكفي أن نحرر الأرض؛ يجب أن نحرر أنفسنا من الكذب والفساد والتسلط. الأخلاق هي أساس الحرية". وفي كلمة له أشبه برسالة للشباب الفلسطيني خلال ندوة شبابية في غزة عام 1997 خاطبهم قائلاً " أنتم أملنا الحقيقي. لا تسمحوا أن تكون السياسة مدرسة للخداع أو للانتهازية. اصنعوا من الأخلاق أساساً للنضال والعمل العام. من يخسر ضميره خسر وطنه،مهما كسب من مصالح زائلة". وفي رسالة قصيرة كتبها بمناسبة تأسيس "الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن" عام 1994 قال"لا ديمقراطية بدون أخلاق، ولا حقوق بدون عدل. لنجعل القانون فوق الأشخاص لا الأشخاص فوق القانون"
مناسبة العودة لهذه المقولات واستذكار القيم الأخلاقية ومبادئ العمل الوطني التي جسدها حيدر عبد الشافي في ممارسته السياسية، هو ما وصلت إليه أحوال القضية الفلسطينية وسلوك المهيمنين على المشهد العام، والمخاطر التي تهدد فعلياً تصفية القضية وضياع الحقوق. عبد الشافي الذي استقال من رئاسة وفد مفاوضات مدريد/ واشنطن، ليس لأن القيادة المتنفذة فاوضت وتوصلت لإتفاق أوسلو من وراء ظهره فقط، بل لأن الإتفاق تجاوز الحلقة المركزية في مفاوضات واشنطن، والمتمثلة بالنص على وقف الاستيطان، ليس فقط كونه المظهر الاحتلالي الأبشع، بل وكونه يُظَهِّر الرواية التاريخية الفلسطينية لهوية الأرض، التي طالما رفضت اسرائيل الاعتراف بها، متمسكة بروايتها المزيفة التي ترفض الاعتراف بنا كشعب وبحقه الطبيعي في تقرير مصيره على أرض وطنه.
ومع ذلك لم يتأخر حيدر عن الاحتكام للشعب في صندوق الاقتراع، وقد تصدر بفوارق كبيرة عضويته في المجلس التشريعي عن دائرة مدينة غزة في انتخابات 1996. كما لم يتردد أيضاً في الاستقالة منه بعد استنتاجه أن طبيعة تركيبة المجلس لا تمكن من الرقابة والمساءلة والمحاسبة المطلوبة للسلطة التنفيذية ممثلة بالرئيس عرفات وحكومته ذات اللون السياسي الواحد إلى حد بعيد.
اليوم، و رغم حرب الابادة و سياسة التطهير العرقي لكسر إرادة الشعب الفلسطيني وإخضاعه للمشروع الصهيوني، وتنفيذ مخططات الضم والتصفية، يواصل المهيمنين على المشهد السياسي، عدم الاكتراث بمتطلبات الوحدة لمواجهة هذه المخططات التي تهدف إلى استئصال الرواية والوجود الفلسطيني من أرض الآباء والأجداد، وما يستدعيه ذلك من ضرورة استعادة دور ومكانة مؤسسات الوطنية الجامعة. ذلك ليس فقط مع حركتي حماس والجهاد، بل ومع القوي الشريكة والمؤسسة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقيادة الانتفاضات المجيدة التي طالما أعادت الحياة للقضية وشكلت سياجاً لحماية القيادة ذاتها.
إن أي خطوة في واقع النظام السياسي الفلسطيني، ومنها استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية و دولة فلسطين، يجب أن تخضع إلى مدى خدمتها للأولويات الوطنية العليا المتمثلة أساساً بوقف حرب الابادة على شعبنا في غزة. والسؤال البديهي هل تبرأة اسرائيل من مسؤوليتها عن جرائم الابادة، وتحميل المقاومة المسؤولية عن استمرارها يخدم هذه الأولوية أم أنه يشجع اسرائيل على المضي بجرائمها؟! هل هذا الاستحداث، دون اكتراث بالتوافق الوطني، بل وإزاحة وثيقة بكين للتوافق الوطني عن أعمال المركزي، يُمكن أن يصلب البيت الداخلي، بما في ذلك بلورة حلول وطنية عقلانية للخروج من عنق الزجاجة الذي يخنقنا جميعاً؟! أم أنه استمرار لإحكام القبضة على الحكم والقرار الوطني في أضيق حلقة تمادياً في سياسات الانفراد والتفرد والإقصاء بكل تداعياتها الكارثية ، الأمر الذي يعزل هذه القيادة عن الإرادة الشعبية، ويُسهل على العدو الاستفراد بها، و محاولة إخضاعها؟ أسئلة كثيرة ومفصلية أبرزها لماذا يتم إدارة الظهر لخيار الوحدة والصمود وعلى الأقل التوافق، والمضي في خيار ثبت فشله منذ أن أدير الظهر لما يمثله نهج حيدر عبد الشافي من احتكام للضمير واحترام لارادة الشعب . وان تباينت المواقف ازاء مسار أوسلو في حينه، فإن مسار الضم والاستيطان ودوس مرجعيات التسوية، ومحاولة اختصارها بمرجعية القوة الغاشمة الاحتلالية وما تريده أو لا تريده اسرائيل، والتي سبقت كثيراً السابع من أكتوبر، من المفترض أنها قد حسمت هذا التباين، بما في ذلك من خلال قرارات سبق أن صدرت عن المجلسين الوطني والمركزي، والتي حشرت في ادراج مظلمة، بينما قرار الاستحداث المستعجل في المركزي الملتبس، جري تنفيذه خلال 24 ساعة .
اليوم، لا يُغَيِّر الواقع السائد استمرار البكاء على الماضي وعلى واقع الحال. فقط بالإخلاص لقيم وموروث النضال الوطني و دروسه الغنية، يمكن التلاقي، لكل من يستشعرون الخطر الداهم على المصير الوطني، لبناء جبهة وطنية عريضة لإنقاذ هذا المصير من التصفية، ينبثق عنها قيادة وطنية موحدة لاستعادة مكانة منظمة التحرير كجبهة وطنية متحدة لقيادة النضال الوطني التحرري، مستلهمين السمات القيادية النبيلة لحيدر عبد الشافي في مواصفاتها .