الخميس: 01/05/2025 بتوقيت القدس الشريف

من إدارة الأزمات إلى صناعة الحلول ، الطريق إلى إنهاء المتاهة .

نشر بتاريخ: 01/05/2025 ( آخر تحديث: 01/05/2025 الساعة: 09:32 )

الكاتب: مروان اميل طوباسي

علّمتنا الدراسات والخبرات السياسية أن الأهم من إدارة الأزمات هو امتلاك الرؤية الواضحة، والخطط العلمية المحكمة، والأدوات الفعالة التي تفضي إلى الحلول . إذ إن الاقتصار على إدارة الأزمة دون العمل الجاد على إنهائها، يؤدي إلى تحول إدارتها إلى غاية بحد ذاتها، مما يفاقم التداعيات ويزيد من تعقيد المشهد بمرور الوقت وزيادة هموم الناس .

لقد آن الأوان لأن نصنع الحلول بجرأة، لا أن نكتفي بإدارة المأساة . فكل يوم إضافي في إدارة الأزمة دون حلول حقيقية ، يبتعد بنا عن قضيتنا التحررية ، ويقرّب الأحتلال من فرض وقائعه علينا . إنها لحظة الحقيقة التي تتطلب الانتقال من حالة الإنكار إلى صناعة المستقبل ، بإرادة شعبية حقيقية بأنخراط القوى والفعاليات والنشطاء الوطنيين المستقلين ، من خلال الأستنهاض الجاد والفعلي لكافة مؤسسات منظمة التحرير كجبهة وطنية واسعة ترتقي إلى مستوى التحديات المفصلية ، وتقترب بل وتنخرط في هموم شعبنا أينما كان ، وفي المقدمة من ذلك في غزة الصمود والتحدي .

ولعلّ الخطوة الأولى على طريق الخروج من هذه المتاهة الوطنية تكمن في الأعتراف بالدور الجوهري الذي يقع على عاتق حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، باعتبارها المفترض العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية ، والمكوّن الرئيس في منظمة التحرير وقائدة مشروع النضال من أجل التحرر والأستقلال الوطني . لقد آن الأوان أن تعود "فتح" لتتحمّل مسؤولياتها التاريخية ، وأن تعيد الإعتبار لدورها الوطني الذي شابه الضعف والتيه خلال السنوات الماضية ، بفعل عوامل ذاتية وموضوعية متعددة . فبقدر ما تمثل "فتح" من ثقل تاريخي وتنظيمي ، بقدر ما يقع على عاتقها واجب إنهاء حالة التشتت فيها واستنهاض نفسها أولًا ، والأنفتاح على الكل الوطني ثانياً ، لقيادة المشروع الوطني التحرري بالأستناد إلى رؤية واضحة وبرنامج وأدوات نضالية متجددة .

إن غياب الرؤية المتماسكة ، والبرامج التنفيذية والأدوات القادرة على الفعل ، يخلق بيئة تتغذى فيها الأزمات على ذاتها . وعندما تتأصل الآليات الإدارية المؤقتة دون حلول حقيقية، تتكرّس الوقائع المستجدة على الأرض لتصبح لاحقًا جزءً من معطيات الأزمة الدائمة، مما يصعّب حلها مع مرور الزمن ، فتستعصي لاحقا ان لم يتم أدراكها مبكرا حتى ولو كان متأخراً .

إن مفهوم حل الأزمات ، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو وطنية عامة ، يرتبط عضوياً بامتلاك الإرادة السياسية الواعية والمستعدة لتحمل تكلفة القرارات الكبرى . فحل الأزمات ليس خياراً مجانياً ، بل له أثمان قد تبدو قاسية في المدى القصير ، لكنها وحدها تفتح الطريق أمام الخروج من دائرة الأستنزاف المستدام نحو آفاق الحلول والتغيير بقرار وطني مستقل .

للأسف ، ما نشهده في واقعنا الفلسطيني والعربي عموماً يتطابق مع هذا التوصيف بدقة . فمنذ سنوات ، تُدار أزماتنا دون خطط وحلول فعلية قابلة التنفيذ بمعظمها ، بل عبر مراكمة إجراءات مؤقتة وشعارات تُبقي الأوضاع ضمن حدود الأنفجار المضبوط ، دون معالجة الجذور الحقيقية للمشاكل في غياب أفق سياسي يُنهي الأحتلال الأستيطاني وسياسات القهر اليومي .

وهكذا تفرض إسرائيل ، مستفيدة من ذلك ، وقائع جديدة يومياً على الأرض الفلسطينية لتنفيذ خطة المعازل الجغرافية ، مدعومة بسياسات أمريكية تنتمي إلى ما يمكن تسميته "مدرسة المتاهة"، أي مدرسة خلق الأزمات ثم إدارتها دون نية الوصول إلى نهايات عادلة ، وذلك بإدخال الشعوب في لعبة متاهات اللانهاية .

تاريخياً ، مارست الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سياسة الحفاظ على الأزمات مفتوحة ومُسيطر عليها . فلم يكن الهدف إنهاء الصراعات بإنهاء الأحتلال الأستيطاني او الوصول الى تسويات سياسية تُفضي الى اقامة الدولة وفق مفهومنا الوطني ومفهوم القانون الدولي ، بل أستغلالها لفرض ترتيبات تخدم مصالحها الإستراتيجية المتمثلة في حماية أمن إسرائيل وتفوقها ، السيطرة على الثروات الطبيعية والممرات التجارية ، تحجيم القوى الإقليمية الصاعدة ، وإبقاء الشعوب العربية في حالة من الأستنزاف المزمن ، وإسقاط عقلية الهزيمة عليها ، ومعاداة ثقافة المقاومة والتغيير نحو القبول بالأمر الواقع بل والتعامل معه بحجة "البراغماتية".

وفي هذا السياق ، تبرز أهمية النظر في نتائج اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية الأخير ، الذي انعقد وسط تصاعد التحديات الوطنية والإقليمية بل والدولية . غير أن القراءة الموضوعية لهذه النتائج تطرح تساؤلات مشروعة حول مدى توفر الرؤية الواضحة والبرامج القادرة على التنفيذ بعيدا عن لغة الشعارات والأسماء . فما لم يتحول النقاش باتجاه الفكرة والنهج ، وترجمة هذه القرارات إلى خطط عملية بأدوات فاعلة وقواعد إسناد شعبية واسعة وتجسيد مفاهيم العمل البرلماني تحت القبة ، الذي نفتقده بغياب الانتخابات العامة التمثيلية ، وضرورة فهم حق الأختلاف في إطار الوحدة الجامعة ، ستبقى إدارة الأزمة تراوح مكانها ، مما يسمح للواقع الأحتلالي بالتجذر أكثر في فرض سياساته نحو تنفيذ مشروعه الإستعماري "اسرائيل الكبرى" ، وسنبقى نحن ندور في لعبة المتاهة ، في حين يَدعي البعض أحتكاره معرفة طريق الخروج منها .

لقد بات واضحاً أن شعبنا الفلسطيني ، رغم عظم تضحياته وصلابة إرادته منذ قرن من الزمن ، لا يملك عصاً سحرية أو قوى خارقة لحل جميع الإشكالات المتراكمة التي صنعتها عقود من التواطئ الدولي والانقسام الداخلي والسياسات العاجزة ، وأخيرا قرارات الحرب المنفردة دون الحسابات الدقيقة ، رغم حق شعبنا المشروع في المقاومة ، او تداعيات فشل المسار السياسي لأتفاق أوسلو الذي لم يُفضي الى الدولة المستقلة .

لذلك فإن معالجة الواقع الفلسطيني لا تكون بالغوص في التفاصيل ، ولا بتبديل الأشخاص أو الأنشغال بجوانب التفاصيل الشخصية بدلاً عن اعتبار المعايير المفترضة لأشغال المواقع العامة . الطريق يكون عبر بناء منهج وتجسيد الفكرة بشكل معاصر تاخذ تسارع المتغيرات بعين الاعتبار ، وعبر وحدة وطنية حقيقية ترتكز على توافق حول رؤية وبرنامج نضالي عقلاني يستند الى الحقوق التاريخية السياسية وإلى الشرعية الدولية ، ومن خلال أدوات فاعلة تستجيب لحقائق المرحلة وطبيعة الصراع وفهم المتغيرات الدولية والإستفاده منها ومن نهوض التضامن الدولي الشعبي وزيادة عزلة اسرائيل وما ينتابها من أزمة بنيوية اليوم لم تمر بها سابقا .

إن الشارع الفلسطيني ، الذي يتحمل عبئ الصمود اليومي على إثر استمرار محرقة القرن ٢١ وتوسيع سياسات الأستيطان والضم والتهويد والأحلال السكاني ، قد عبّر بوضوح عن حالة من الأمتعاض من السياسات الحكومية للسلطة الوطنية التي امتازت بالشعارات والوعود وخطط لم يسعفها التنفيذ ، خاصة في شمال الضفة الغربية وقبل ذلك من أدارة حكم الأمر الواقع القائم بقطاع غزة الذي أرهق الناس . فالمجازر والدمار الذي طال مخيمات جنين ، طولكرم، نابلس وطوباس ومحيطهم ، وما تلاه من تهجير قسري وتدمير للمخيمات ، وحصار طويل ، ومعاناة قاسية عاشها أهلنا هناك كما في قطاع غزة اضافة الى مجريات الإبادة الجماعية التي لا تتوقف ، أبرزت عجز الأداء الحكومي عن تقديم حلول جدية توازي حجم المأساة . ولنا في ما دار في الأجتماع المنعقد في قاعة الغرفة التجارية بطولكرم بالايام الماضية وفي غيرها ايضا مثالاً على ذلك ، حيث تقتصر الأستجابة الرسمية على إدارة الأزمة دون تفكيكها .

إن الخروج من متاهة إدارة الأزمات يبدأ بالشجاعة في الإعتراف بالواقع كما هو ، والتصميم على تغييره من خلال خطوات عملية تبدأ من خلال :
أولاً : بناء رؤية وطنية موحدة تحدد الأهداف بوضوح بالأستناد إلى مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات.
ثانياً : بلورة برامج عمل تنفيذية تتكامل فيها الأدوات السياسية والميدانية وفق ظروف شعبنا وضرورات الصمود بالحالة القائمة .
ثالثاً : إعادة الإعتبار للإرادة الشعبية، وتفعيل الأدوات الديمقراطية لضمان مشاركة حقيقية في صناعة القرار الوطني المستقل عبر الانتخابات أينما تسنّى ذلك .
رابعاً : الإستعداد لتحمل تكلفة القرارات الكبرى ، بدلاً من التعايش مع حالة الموت البطيء.

لقد آن الأوان لأن نصنع الحلول بجرأة ، لا أن نكتفي بإدارة المأساة . فكل يوم إضافي في إدارة الأزمة دون حلول حقيقية، يبتعد بنا عن قضيتنا الوطنية التحررية، ويُقرّب الأحتلال من فرض وقائعه علينا . إنها لحظة الحقيقة التي تتطلب الإنتقال من حالة الإنكار إلى صناعة المستقبل ، بإرادة شعبية حقيقية تتمثل فيها القوى والفعاليات الوطنية والنشطاء الوطنيين على قاعدة القواسم المشتركة ، من خلال الأستنهاض الجاد والفعلي لكافة مؤسسات منظمة التحرير كجبهة وطنية واسعة ترتقي إلى مستوى التحديات المفصلية ، وتقترب بل وتنخرط في هموم شعبنا أينما كان ليس كمراقب بل كشريك وقائد ، بدلاً عن سياسات الأنتظار التي باتت لا تجدي نفعاً في غياب المبادرة وسياسات الهجوم السياسي .