الكاتب:
برهان السعدي
المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي من غير الفلسطينيين أو من غير العرب، يعتقد أن الفلسطينيين أمة منشطرة إلى شطرين أو أكثر، ودرجة الاختلاف بينم كبيرة جدا، إلى الحد الذي تختلف فيه أولوياتهم، وتصل تبايناتهم إلى الحد الذي ينسجم فيه غالبيتهم مع الرواية الإسرائيلية.
وكان السابع من أكتوبر عام 2023 أساس الفرز في التصنيف، فإما أنك مع دمار غزة وقتل شعبها لمجرد تحديدك موقفا إيجابيا من ذلك الحدث الذي شكل عبورا مفاجئا وجريئا وغير متوقع حتى في الخيال. وإما أن تقف موقف المعادي والمعارض للحدث وتعتبر أن ما حصل في غزة هو بفعل مقامرة قامت بها مجموعة غير مسؤولة، وتضحي بمصلحة شعبها ووجوده لمصالح حزبية تمثل خدمة وتنفيذا لأوامر وسياسات دول في الإقليم، وتنفي بالمقابل وجود مقاومة للاحتلال في غزة.
أقارن شكل الخطاب والشعارات التي طرحت بعد السابع من أكتوبر، بنفس شكل الخطاب والشعارات التي طرحت في الساحتين العربية والفلسطينية بعد انطلاقة حركة فتح في كانون ثاني /يناير عام 1965 من تفرد وتفتيت للجهد وتمويل مشبوه وتبعية وغير ذلك. والسؤال هل بلغتت أو نسقت حركة فتح انطلاقتها مع أية دولة أو قوة حزبية على الساحة الفلسطينية أو العربية؟؟! وهل نسقت حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية عملية الساحل البطولية والتي عرفت إعلاميا وشعبيا بعملية دلال المغربي في 11/3/1978م؟؟! وهل نسقت حركة فتح وفصائل الثورة الفلسطينية لوجودها في الأردن أو لبنان مع الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، أم فرضت ذاتها، وحصلت اشتباكات مع أجهزة أمن تلك الدول ليحكم وجودها بعد ذلك اتفاقيات.
وهل فصائل الثورة الفلسطينية وضعت قواعدها وفرضت وجودها المسلح في الصحراء أو في مناطق خالية من السكان أم بين جماهير شعبها في المخيمات تحديدا، مما سبب بغارات جوية وقصف مدفعي إسرائيلي على مدار سنوات وجود فصائل الثورة الفلسطينية في الدول التي تواجدت فيها، وكانت شعارات فصائل المقاوم الفلسطينية كغيرها من حركات التحرر الوطني العالمية بأن الثورة بين جماهيرها كالسمكة في الماء، وإذا خرجت من بين حاضنتها الجماهيرية ماتت، وكان ذلك بالفعل في اتفاقية القاهرة عام 1970 نتيجة أحداث أيلول المؤسفة، حيث اتفقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل أبو عمار مع الأردن على خروج فصائل المقاومة من المخيمات في الأردن إلى أحراش جرش، وكانت النتيجة تصفية الوجود الفلسطيني المسلح من اهم ساحة مواجهة مع الغزاة المحتلين. والشواهد كثيرة.
والسؤال هنا: هل ما ينطبق على فصائل منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة فتح يكون من المحرمات انطباقه على غيرها من فصائل أو قوى أو مجموعات مسلحة تبنت خيار المقاومة ضد الاحتلال في ظل عجز عربي وفلسطيني في مواجهة أكبر هجمة استعمارية تقوم على الاستيطان والإحلال بعد طرد الفلسطينيين من وطنهم؟!!
كان الخلاف مع حماس لعدم وجود برنامج وطني لها يحدد أن إسرائيل بكيانها هي العدو الاستراتيجي، وعدم أخذها بالحسبان مقاومة المحتل، وعدم اقتناع غالبية الشعب الفلسطيني بمشاركة فاعلة لحركة حماس في معادلة تحرير الوطن، وتم تشريح عملياتها التي حدثت في الانتفاضة الثانية على أساس أنها تخريب، وإعاقة واضحة لتنفيذ الاحتلال انسحابه من بعض المدن الفلسطينية حسب اتفاقات أوسلو، وتعزز الموقف المعادي لها بما وصف بانقلاب حماس على السلطة الفلسطينية.
لكن الآن اختلف الوضع، وهناك مقاومة واضحة تخوضها فصائل فلسطينية في غزة، فالمبرر فلسطينيا لمعاداتها لا بد أن يتوقف كونه أضحى غير قائم وغير مقنع.
ويبرز السؤال الذي يطرحه كثيرون ممن يتمترسون خلف مواقفهم التي تعتبر أن دمار غزة هو نتاج تلك المغامرة أو المقامرة: ماذا تنتظر من أي استعمار في مواجهة قوى وطنية تسعى إلى التحرر؟؟!! هل يقدم لها باقات ورد أو ينثر أكاليل غار؟؟!! بالتأكيد سيحاول سحقها بشدة. فما بالنا إذا كان هذا الاستعمار بشكل مغاير لكافة أشكال الاستعمار في العالم؟؟!! فخسارته في معركة مصيرية هي نهاية وجوده، لأنه لا يمتلك وطنا ليعود إليه هو وجموع قطعان مستوطنيه؟ إذن سيقوم بالقتل والتدمير والتهجير والتجويع ونشر الأمراض لتتحقق الإبادة بكل أشكالها من منظور عنصري استعلائي حاقد على النوع البشري.
وسؤال وجيه يتم طرحه: ما العمل في ظل امتلاك العدو لأحدث ماكينات القتل والدمار مع دعم مطلق من دول الناتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية؟؟ ونواجه سؤالا آخر: ماذا عملت تلك القوى المغامرة بعد عام ونصف غير الدمار والتجويع؟! فهل حققت نصرا؟! وهل تحرير عدد من الأسرى يعادل هذا الدمار والقتل والمجاعة؟!
علينا أن ندرك أنه عار على أية حركة تحرر في العالم أو أية دولة أن يبقى أسراها في سجون الاحتلال عدة عقود من الزمن. فإذا جن جنون العالم على وجود أسرى إسرائيليين لدى المقاومة في غزة وهم لم يمكثوا سوى أشهر، فكيف مع أسرى الحرية، ولماذا لم تعصف عواصم العالم بضجيج أنات أمهات الأسرى وزوجاتهم وأطفالهم، إذن أي عمل لتحريرهم يساوي أن يتحمل الشعب تلك الأثقال من المعاناة والقتل والتجويع، لأنها مؤشر على روح الشعب في مواصلة لفظه الاحتلال وعدم تخليه عن الأسرى الذي دافعوا عن كرامته. وحتى لو كان اختلاف نحو هذا الأمر فهو مستوعب، لكن ما هو غير مستوعب أن لا تكون خطط لتحريرهم، والاكتفاء بخطوة رفع العتب التي شكلت اعتصاما أسبوعيا أمام مكاتب الصليب الأحمر في المدن الفلسطينية والذين لم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليدين والقدمين في معظم الأيام.
وما دام كثيرون يخشون ردات فعل الاحتلال جراء العمل المقاوم، فما هو البديل؟! طبعا هناك طرح، ليبقى الوضع كما هو حتى تمتلك السلطة قوة لتحقق إنهاء الاحتلال بالتفاوض. لا أريد أن أعالج هذا الموقف المأزوم والانهزامي، لكن وفقا لسياق هذه الأطروحة، لماذا لم نوفر المعاناة على شعبنا منذ عشرات السنين ونرفع الراية البيضاء ونعيش كغيرنا دون هدم منازل، مع توفير فرص عمل في مصانع ومنشآت الاحتلال؟! ولماذا رفضنا خطاب السادات في الكنيست عندما خاطب شعبنا بنفس المنطق حيث قال من جملة خطابه: من الأجدى عبوة هنا وزجاجة حارقة هناك، ومعتقل هنا وشهيد هناك ويعيش أبناؤكم في السجون وآخرون جرحى أم أن تعيشوا بطمأنينة وسلام واستقرار، وكلام كثير في هذا السياق.
وأمام صراع المفاهيم المأزومة مع مفاهيم مغايرة، أقول لا بد من خيارات. لنتفق أولا أننا لا نقبل باحتلال أي جزء من بلادنا، لكن ما الخيارات الموجودة؟؟
الخيار الأول: الذهاب إلى صناديق الانتخابات حيث أمكن وآليات ديمقراطية إن كان الانتخاب غير ممكن في بعض الدول حيث يتواجد شعبنا في الشتات، بعد اتفاق على ذلك مع القوى السياسية والفصائلية والمؤسسات المجتمعية لشعبنا، ودون شروط، لانتخاب مجلس وطني برلمان الشعب الفلسطيني، ونتيجة الانتخابات يتحدد البرنامج السياسي لمنظمة التحرير ولشعبنا الفلسطيني، وبدوره ينتخب المجلس المركزي الذي بدوره ينتخب لجنة تنفيذية تقوم بوضع آليات لتنفيذ البرنامج السياسي. وبالتالي تتحدد العلاقة بين السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
الخيار الثاني: الإبقاء على السلطة الفلسطينية كجسم إداري للشؤون الفلسطينية، مع تسليم القضية الفلسطينية لدول تمتلك أوراق ضغط وقوة، يمكن أن تكون عربية أو غير ذلك، مهمتها إنهاء الاحتلال وإطلاق سراح الأسرى ورفع المعاناة عن شعبنا، في المقابل يتم تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى جسم فلسطيني رقابي جامع للقوى الفلسطينية، ويتم اختيار ذلك عن طريق صندوق الانتخابات بشكل دوري. ومهمته متابعة الدول التي عهد إليها بالعمل للخلاص من الاحتلال. وبهذا نوفر المعاناة عن شعبنا.
الخيار الثالث: أن يبقى الوضع كما هو ليشكل عنوان الانقسام والتشرذم وبوابة لقضم الوطن، تحت مبررات لولاهم لكان شعبنا بخير، وهذه النغمة التي يجب أن يتخلص منها شعبنا، فالأحزاب ليست آلهة نعبدها، هي وسيلة لاختصار الطريق لإنهاء الاحتلال، فإن لم تحقق الغاية لا بد من وقفة معها وغربلة المسير، فمرارة الواقع لا يخلص شعبنا منها التاريخ المشرف لتلك القوى والأحزاب والحركات.
هذه الخيارات يمكن أن يجتهد آخرون لإضافة غيرها بعيدا عن المعارضة أو الموالاة لما هو قائم.