الكاتب:
الصحفي اسامة قدوس
منذ انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتشتت القرار الفلسطيني بين الاضطرابات الداخلية والإملاءات الخارجية، لم تعد الأولويات تُحدَّد وفق تحالفات وطنية تخدم الشعب الفلسطيني، بل بناءً على منطق "المموِّل وذراعه"، وفق صيغ ميليشيوية تُدار من خارج الأرض التي تدّعي تمثيلها.
منذ ذلك الحين، لم تعد مأساة غزة صورة نمطية لعدوان خارجي يجب مواجهته بسياسة وطنية موحَّدة، بل أضحت، بالأحرى، محصلة تراكب خطير بين مشروع عسكري بلا أفق، وإيمان ديني بلا سياسة، وتواطؤ إقليمي يتغذّى على إدامة المأساة بوصفها مشهداً قابلاً للتمويل والمزايدة.
حركة "المقاومة الإسلامية" حماس — التي بدأت يوماً كحركة دينية مقاومة — تحوّلت تدريجياً إلى ما يشبه "الميليشيا الحاكمة"، تمسك بزمام السلطة والسلاح، وتُدير شؤون البلدية وتطوير البنية التحتية جنباً إلى جنب مع وحدات مقاتلة تصنّع الصواريخ انطلاقاً من تلك البنية نفسها.
المشكلة لم تكن في السلاح وحده، بل في غياب أي تفكير استراتيجي يتجاوز منطق الردع اللحظي والانتصار الرمزي، لصالح مشروع سياسي فعلي يضمن للناس الخبز والكرامة، والحد الأدنى من الأمل — الأمل الذي لا يمكن أن يتحقق حلم التحرر الوطني دونه.
منذ السابع من أكتوبر، بدا المشهد المتوقع من حماس مكرورًا: صدمة، دم، ثم صمت، ثم حشود تهتف، ثم خراب يتبعه وقف إطلاق نار، فإعلان نصر.
لكن ما حدث لم يكن نصراً، بل انتحاراً تم تأطيره كملحمة. وبينما كانت الأشلاء تُنتشَل من تحت الأنقاض، كانت البيانات الجاهزة تُرفَع إلى المنصات الإعلامية، تتحدث عن "صمود" بلا أفق، و"مقاومة" بلا سياسة.
ما معنى المقاومة حين لا يكون الهدف واضح المعالم ومتوافقاً عليه من المجتمع الذي يُفترض أن يتحمل كلفتها؟
ما معنى إطلاق الصواريخ، حين تكون نتيجتها الحتمية مزيداً من الحصار والعزلة والدمار؟
أليست هذه عدمية سياسية مقنّعة بخطاب ديني؟
الحقيقة المُرّة أن المشروع التحريري لحماس، سواءً آمن به البعض أو لا، لا ينتمي إلى أي أفق سياسي معاصر تحكمه المصالح والقيم المشتركة.
لا يوجد في الفكر السياسي الحديث ما يبرر تأسيس دولة على أساس "التمكين الإلهي" أو "الفتح العسكري". هذه لغة لم تعد تنتج سوى الكارثة، وتدفع حتى أكثر المتعاطفين مع القضية الفلسطينية إلى التراجع أو الصمت.
وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في تحويل الحرب إلى فرصة لتحطيم كل ما تم بناؤه في غزة وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، فإن حماس لم تُنتج من عمليتها سوى الانهيار الكامل لما تبقّى من مقوّمات الصمود.
هل هذا توازن رعب؟ أم توازن وهم؟
الواقع أن الخيار العسكري، دون أفق تفاوضي أو غطاء سياسي، هو محرقة مستدامة تُقدَّم للشعب باسم "المقاومة".
مشكلة حماس ليست في خياراتها وحدها، بل في فكرها نفسه: الفكر الذي يتعامل مع الفلسطينيين كقربان من أجل "الهدف الأسمى"، لا كأفراد ذوي حقوق.
أي فلسطين ستُحرَّر، إن مات جزء من الفلسطينيين، وهاجر الآخر؟
يجب أن يدرك صانعو القرار في حماس أن غزة ليست راية ولا شعاراً، بل مدينة حقيقية، يسكنها بشر حقيقيون، يريدون ما يريده كل الناس: ماء، دواء، كهرباء، تعليم، ومخرج من هذا الجحيم.
غزة ليست محطة في سردية خلاصية تنتهي بالتمكين ودحر الأعداء، بل مكان للحياة قبل أن تكون مسرحاً للموت.
وختاماً، فإن كل تأخير في تفكيك هذا المنطق الميليشيوي الذي حاد بالشعب الفلسطيني عن قضاياه المشروعة، هو تأجيل متعمّد للخلاص، وتمديد طوعي لكابوس لن ينتهي إلا بالمزيد من الموت والألم.