الجمعة: 13/06/2025 بتوقيت القدس الشريف

فلسطين بين الحقّ والواقعية: نشيد العالقين على عرش الرماد

نشر بتاريخ: 12/06/2025 ( آخر تحديث: 12/06/2025 الساعة: 09:50 )

الكاتب: ثروت زيد الكيلاني

من شمال جنين حتى جنوب رفح، مروراً بكل ما بينهما من دمٍ وركام، لا تزال الأرض الفلسطينية تنزف؛ لا فقط من جراحها، بل من صمت العالم، وتواطؤ العقل المدّعي للحداثة، وانقسام الذات التي تحاول النجاة بما تبقّى من ذاكرة. ففي غزة والضفة الغربية، لم تعد الحياة تعني الحياة، ولا السماء تعني الأمان، ولا الأرض تعني الوطن… صارت كل هذه الكلمات مجرّد أصداء في مقبرة مفتوحة، تعجز اللغات عن توصيفها، وتخجل العدالة من المرور بها.

كأن المقابر جوعى، والرّصاص نهمٌ لا يشبع، وكل ما في الجغرافيا يئنّ من وطأة المجازر؛ السحاب يغدق الأكفان، والسماء تلتهم النعوش، والندى الصباحي غدا صلباً كالفولاذ، والأرض لا تُزهر سوى العفن. حتى الشمس تغوص في ظلامٍ كثيف، كأنها سُحبت من مهامها، بينما يزحف الحمام فوق الشوك، حاملاً سلاماً مبتوراً، لا صوت له ولا ظلّ. ليلٌ فاقدٌ للإحساس، يتلمّس البسمة بخنجر، يطوّق النسمة بالسلاسل، يعضّ عنق الندى، ويشرب دمع الفراشة، ثم يقدّم نفسه للعالم ضحيةً نبيلة.

هكذا تُجيد إسرائيل تقمّص الأدوار: “ضحية الياسمين”، “قتيلة الحنان”، “سجينة الحوار”، فيما هي من أقسمت أن تطعم الحجارة لحم العصافير، وأن تُذيق السنابل طعم الخراب؛ تعتلي عرشاً من الجماجم وتسمّي ذلك حضارة، وتصفّق لها عواصم كبرى، وأصوات دبلوماسية مصقولة، وأنظمة تنطق بالحكمة حين يتطلب الموقف الصمت، وتلوّح بالاعتدال حين يُطلب منها الموقف. وفي هذا المشهد، لا تفرّق شركات الموت الحديثة بين مستشفى ومدرسة، ولا بين مخبز ومخيم؛ فالإنتاج الوحيد الرائج هو الدمار، والتوزيع يشمل الحدود، والمقاعد، والأسِرّة، والأسواق، فالجوع لم يعد مجرد فقدانٍ للخبز، بل نشيد الموتى الذين علقوا في منازلهم، داخل وطنهم، لا لذنبٍ سوى أنهم فلسطينيون.

إن ما يحدث في فلسطين ليس اشتباكاً سياسياً عابراً، بل مشروع إبادة طويل النفس، يستهدف طمس الهوية واقتلاع الوجود، وتحويل الجغرافيا إلى خريطة صامتة تتسع للاستيطان ولا تحتمل الحياة. يُحاكَم الضحايا بصبرهم، ويُطلب منهم الاعتذار عن بقائهم أحياء، فيما يُكافَأ القاتل بثناء العالم وحياده المريب.

لكن مواجهة هذا المشروع الإلغائي لا يمكن أن تكون بمزيد من العبث السياسي أو المغامرات العسكرية غير المحسوبة، التي تتجاهل الثمن الفادح الذي يدفعه الشعب المحاصر في غزة، وتختزل الكفاح الوطني في استعراضات تفتقر إلى مراعاة موازين القوى ورؤية استراتيجية واضحة. فرفض الإبادة لا يعني تبرير التهور، والمقاومة الحقيقية هي التي تحمي الناس وتحافظ على وجودهم، وترتكز على وعي عميق بالزمان والمكان، لا على ردود أفعال عشوائية تخلو من الحكمة. فهل بقي للعالم ضمير يُستنهض؟ وهل بقيت للعدالة نافذة في هذا الليل الثقيل؟ سيكتب التاريخ يومًا أن شعبًا كان وحده في مواجهة عرش من الجماجم، ومع ذلك، ظلّ يغنّي.

في مواجهة الإبادة، لم يعد كافياً أن نرثي أو نعدّ الضحايا أو ننتظر صحوة الضمير الإنساني؛ فالدم، مهما بلغت قدسيته، إذا لم يتحوّل إلى وعي، يبقى قابلاً للتكرار، ولا ينجو من القتل من لا يمسك بزمام مصيره ويفكّك أزمته الذاتية. لقد تجاوزت الوحدة الوطنية حدود الشعار، لتغدو شرطاً للبقاء؛ فلا خطة وطنية تُكتب فوق ركام الانقسام، ولا تحرر يُبنى على عقلية التنازع أو ضيق التمثيل، إذ لا يملأ فراغ الانقسام سوى الاحتلال، ولا تستقيم بوصلة التحرر دون ناظمٍ وطنيٍّ جامع يتجاوز الاصطفافات، ويعيد تعريف المشروع الوطني بما تقتضيه المرحلة: وعيٌ ناضج، وعقلٌ جماعيّ، وإرادةٌ فاعلة.

وهنا، لا بدّ من تفكيك الالتباس العميق بين الواقعية والحق؛ فالواقعية ليست استسلامًا لإملاءات القوة، بل هي فنّ قراءة موازين القوى بذكاء لتحديها وتغيير معادلاتها، أما الحق فليس مجرد هتاف أو عاطفة جياشة، بل قيمة ثابتة لا تتحقق إلا حين تتقن الشعوب بناء أدواتها وصياغة مواقفها بعقلانية وشجاعة. فمن يغفل التمييز بين الممكن والمطلوب، قد يدفن الحق تحت قناع الواقعية، أو يفرّط بالممكن باسم المثاليات. وفي هذه المسافة الدقيقة بين الواقعية والحق، تُرسَم خارطة الخلاص، فتبدأ الرحلة من الذات، تلك النقطة التي ينبثق منها كل تغيير حقيقي.

الفكر الوطني في فلسطين اليوم مدعوّ لأن ينسج ثلاثية خلاص متكاملة: وعيٌ لا تخدعُه الأقنعة، ووحدةٌ تتجاوز حدود الخطابات، واستراتيجيةٌ تملك القدرة على تحويل الحلم إلى خطة، والحق إلى مشروع حيّ ينبض بالحرية والكرامة. فالتحرر ليس لحظة انتصار عابرة، بل مسار طويل، يبدأ حين تصير القضية مرآتنا لا مجرد شعارٍ يتردد، وحين ندرك أن الطريق إلى القدس لا يمرّ فقط عبر المتاريس، بل ينبع من القلب الذي يتّسع لشعبٍ كامل، ومن العقل الذي يصوغ مستقبلاً يليق بدماء الشهداء وأمل الأجيال.