الكاتب: د. سليمان عيسى جرادات
يشكل حملة شهادة الدكتوراه في الوظيفة العمومية بالقطاعين المدني والامني أحد أبرز أعمدة التحديث والتطوير في معظم مؤسسات الدول ، إذ إن خبراتهم العلمية وقدراتهم البحثية تمثل قوة معرفية قادرة على إحداث نقلة نوعية في الأداء الحكومي على حد سواء ، فهم يساهمون في صياغة السياسات العامة، وابتكار الحلول، وتطوير الخطط الاستراتيجية التي تواكب المتغيرات المعاصرة وتلبي حاجات المجتمع والدولة ، ومع ذلك، لا يزال واقعهم الوظيفي في بعض المجتمعات العربية ومنها دولة فلسطين محاطا بتحديات كبيرة، أبرزها غياب التشريعات الواضحة التي تنصفهم وتحدد مسارات ترقيتهم وتضمن لهم مكانة مهنية تليق بمؤهلاتهم العلمية، إلى جانب التفاوت الكبير في الرواتب والامتيازات مقارنة بزملائهم في الجامعات الغير حكومية، وضعف فرص التفرغ العلمي والتطوير المستمر.
لقد أدركت العديد من التجارب الدولية أهمية تمكين الكفاءات العلمية بمختلف مستوياتها، فأسست نماذج تجمع بين العمل الإداري أو العسكري والبحث الأكاديمي، مما ساعد على تطوير السياسات وصناعة القرار بفعالية أكبر، وتضمنت هذه التجارب إنشاء مراكز بحثية عليا متخصصة على مستوى الدولة وبرامج تحفيزية تمنح حملة الدكتوراه فرصا عادلة للترقية والامتيازات المادية والمعنوية، بما ينسجم مع مؤهلاتهم ودورهم ، ومع ذلك، فإن إنصاف حملة الدكتوراه لا يعني الانتقاص من قيمة الموظفين من أصحاب الماجستير أو البكالوريوس، إذ لكل فئة إسهامها المهم في تطوير المؤسسات.
في السياق الفلسطيني وبالرغم من الوضع الاستثنائي والتحديات الصعبة المرتبطة بالاحتلال ومحدودية الموارد، ظهرت بعض المبادرات الحكومية التي تعتمد بالاستشارات على الاكاديميين والباحثين في الجامعات المنتشرة في الوطن كجزء أساسي مع إتاحة الفرصة بشكل متواضع لحملة الدكتوراه في الوظيفة العمومية من اكاديميين وادريين وباحثين للمشاركة في لجان التخطيط على المستوى الوطني وإعداد الخطط القطاعية او الاستشارة في شتى المجالات .
خلال العقود الماضية لم يسمع صوتا لأنصاف هذه الشريحة المهمة تحفظ حقوقهم وتوظف خبراتهم على الوجه الأمثل لتصبح منظومة متكاملة ، وهنا تبرز الحاجة إلى تطوير إطار تشريعي متخصص يكرس مبدأ العدالة الوظيفية ويضمن الاستقرار المهني ويحقق تطلعات هذه الفئة، ومن الضروري إعادة النظر في سن التقاعد المعمول بها حاليا للأكاديميين العاملين في الجامعات الحكومية، ورفعه إلى خمس وستين عاما اسوة للعاملين في الجامعات الأخرى، وأسوة بتجارب دولية التي راعت خصوصية العمل الأكاديمي وأهمية نقل الخبرة المتراكمة للأجيال الجديدة.
يعاني العاملين في الجامعات والكليات الحكومية من موضوع عدم تطبيق توحيد الكادر الموحد (المالي) ورفع سلم الرواتب كأهمية بالغة، إذ إن اعتماد كادر مالي موحد لجميع الجامعات والكليات الحكومية يحقق العدالة ويقلل الفجوات الكبيرة بين الأكاديميين، ويحفز الكفاءات على البقاء في منظومة التعليم العالي بدلًا من البحث عن فرص بديلة ، أما العسكريون من حملة الدكتوراه، فإن دورهم لا يقل أهمية عن نظرائهم المدنيين، فهم يساهمون في تطوير العقيدة العسكرية وإعداد الدراسات الاستراتيجية وتحديث المناهج في الكليات والمعاهد الامنية، ومن مقتضيات العدالة الوظيفية أن تمنح لهم امتيازات الترقية والعلاوات المرتبطة بمؤهلاتهم العلمية ونشاطاتهم البحثية ومساهماتهم العلمية الكبيرة اسوة بالعاملين بالقطاع المدني ، وتسهل لهم فرص التفرغ العلمي بما يليق بمكانتهم الأكاديمية والمهنية.
إن الترقية الوظيفية للعاملين الإداريين من حملة الدكتوراه يجب أن تكون على غرار زملائهم في الجامعات، الذين تحظى أبحاثهم المنشورة بتقدير واضح وتنعكس على سلم درجاتهم الوظيفية ومكانتهم العلمية. فمن غير المنصف أن يبذل هؤلاء الموظفون جهودا بحثية مستمرة ويسهموا في إنتاج المعرفة ومنحهم فرص التقدم والترقية ، كما أن اعتماد نظام احتساب الأبحاث المنشورة ضمن معايير الترقية والتحفيز سيشجعهم على مزيد من العطاء العلمي وربطها ضمن إطار قانوني مالي سيوفر للوزارات والمؤسسات الحكومية قاعدة معرفية متجددة يمكن استثمارها في تطوير الأداء والسياسات والبرامج.
ومن الزاوية المادية، فإن إنصاف حملة الدكتوراه يعد جزءًا أصيلًا من العدالة الوظيفية والكرامة الإنسانية، إذ إن العلاوة الحالية المقدرة بـ500 شيقل ( 300 شيكل دكتوراه و 200 شيكل ماجستير) لا تعكس المستوى العلمي الرفيع لهذه الفئة مع غيابها للعاملين في القطاع الامني ، لذا من الضروري رفعها إلى مبلغ يوازي ويواكب ما يحصل عليه نظراؤهم في القطاعات الأخرى. إن تحقيق هذا الإنصاف في الرواتب والعلاوات يعزز روح الانتماء والإنتاجية ويجعل المؤسسات الحكومية أكثر قدرة على استقطاب الكفاءات واستثمار خبراتها في خدمة المجتمع.
ان دمج المراكز البحثية الحكومية المدنية والأمنية ضمن هيكل مؤسسي موحد يتبع مجلسا أعلى للبحث والتطوير أهمية استراتيجية خلال المرحلة المقبلة ، فهي خطوة كفيلة بتحويل البحث العلمي من نشاط هامشي عددي إلى عنصر رئيسي في صناعة القرار ورسم تخطيط السياسات ، فقد أثبتت التجارب الدولية أن وجود مثل هذه المراكز يمد صناع القرار بقاعدة بيانات دقيقة، ويساعدهم في تحليل المخاطر واستشراف المستقبل وتقديم اقتراحات مبنية على الدراسات الموثوقة، بما ينعكس إيجابًا على فعالية الأداء الحكومي والأمني.
إن تبني رؤية وطنية شاملة تستثمر هذه الطاقات العلمية وتمنحها المكانة التي تستحقها ليس ترفا إداريا، بل ضرورة استراتيجية لضمان نجاح مؤسسات الدولة، وبناء إدارة حديثة قادرة على مواجهة التحديات واستيعاب المتغيرات وتحويلها إلى فرص للتنمية المستدامة والتميز المؤسسي في توظيف العقول ودمجها في المفاصل الإدارية والأمنية ستصنع فارقا واضحا في كفاءتها واستقرارها، وهو ما تحتاجه فلسطين في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها.