الكاتب:
أسامة خليفة
تمارس إسرائيل حرب تجويع ضد السكان المدنيين في غزة، وهذا يعتبر جرائم حرب مهما كانت المبررات التي تسوقها الحكومة الإسرائيلية لإغلاق المعابر وفرض حصار على القطاع ومنع وصول الغذاء، وتدمير الأراضي الزراعية، ومصادر مياه الشرب، ويدرك المجتمع الدولي أن كل ذلك يأتي في إطار حرب الإبادة الجماعية عبر القتل والتجويع والتدمير والتهجير، وتستخدم إسرائيل التجويع في المفاوضات بوضع شروط سياسية مقابل السماح بدخول الغذاء إلى قطاع غزة وتساوم وتقايض على كيس طحين. يحظر القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، استخدام التجويع وسيلة في جميع النزاعات المسلحة، ويعتبر تجويع المدنيين عمداً وحرمانهم من المواد الضرورية لبقائهم جريمة حرب.
لكن المجتمع الدولي هذا بدلاً من الإسراع في ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، يكتفي بالتنديد والإدانة، وكأن مسؤولي المنظمات والمؤسسات الدولية أصيبوا باضطراب القلق المفرط الذي يؤرق حياتهم اليومية، دون الدعوة إلى إجراءات عقابية تطال مجرمي الحرب من قادة إسرائيل، ودون تحرك فاعل لوضع حد لحرب التجويع هذه. تصريحات وقلق وانتقادات وإدانات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل تشجع قوات الاحتلال على ارتكاب المزيد من الجرائم والاستمرار في سياسة التجويع، وتتعرض إسرائيل لانتقادات متزايدة من الأمم المتحدة خلال حربها على غزة، والتي أدت إلى نزوح جميع سكان القطاع داخلياً، وتسببت في مجاعة تهدد حياة آلاف الفلسطينيين. لكن لا تتخذ إجراءات عملية. والدول العربية الصامتة تشاهد الحدث، ولا تحرك ساكناً، وهي مدركة أن الصمت ليس حياداً، بل تواطؤاً ضد الفلسطينيين وضد الإنسانية وقيمها. وتتحمل الأنظمة مسؤولية تمادي جيش الاحتلال بالقتل والتجويع للمدنيين الآمنين ولاسيما منها الدول المطبعة مع الاحتلال الإسرائيلي، وما استمرار العلاقات وتبادل السفارات إلا وصمة عار ستبقى مدموغة على جبين المطبعين مع كيان مجرم.
أشارت هيومان رايتس ووتش إلى أدلة استخدام إسرائيل للتجويع كسلاح في حربها منذ 2023 فقد استهدف الطيران الإسرائيلي البنية التحتية للغذاء، مثل المخابز وطواحين الدقيق، بالإضافة إلى التدمير الإسرائيلي الممنهج للأراضي الزراعية. واستُهدفت مستودعات غذاء تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين بقصف إسرائيلي استشهد خلاله عدد من العاملين في الوكالة وسقط جرحى، وتعرض المجوّعون للقتل بالقصف أمام مراكز توزيع الغذاء القريبة من مواقع عسكرية للاحتلال في القطاع، وبإشراف شركة الأمن الأميركية الخاصة الموكلة بتقديم المساعدات لكنها تنشر الموت، في وقت تعمل الولايات المتحدة الأميركية كشريك في حرب الإبادة الإسرائيلية، وتعمل على وقف تمويل وكالة الأونروا، لمنعها من أداء دورها الإنساني.
واعترضت القوات البحرية الإسرائيلية سفن أسطول فك الحصار عن غزة في المياه الدولية، واحتجزت طاقم سفينة مادلين، وصادرت المساعدات خارقة القانون الدولي. واستهترت بقيم أوروبا وخرقت أمنها حين قامت بقصف سفن المساعدات الغذائية والطبية ضمن حدود أوروبا قبالة جزيرة مالطا، ولكن كيف ردت أوروبا على هذا العدوان والاستفزاز؟. كان الأمر من جديد موضوعاً للشجب والاستنكار، وعند هذا الحد تقف ردود الأفعال الأوروبية.
ويذكر أن في 1 نيسان/أبريل 2024، قُتل سبعة عمال إغاثة تابعين لمنظمة المطبخ المركزي العالمي بغارة إسرائيلية في قطاع غزة استهدفت منعهم من القيام بواجبهم الإنساني، وكان رد الفعل أن المنظمة قامت بتجميد عملها في غزة، ووثقت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مقتل 875 شخصاً خلال أسابيع في غزة، قرب مواقع توزيع مساعدات غذائية غير تابعة للأمم المتحدة تشرف عليها مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة أمريكياً وإسرائيلياً.
قالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، إن إسرائيل تجوِع مليون طفل في قطاع غزة، ودعت إلى فتح المعابر ورفع الحصار، مؤكدة أنها مستعدة للقيام بواجبها الإنساني ومساعدة السكان، ومنهم مليون طفل. فالوكالة تمتلك مخزوناً غذائياً كافياً لجميع سكان قطاع غزة لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، لكنه لا يزال في المستودعات بانتظار السماح بدخوله إلى القطاع. وأوضحت الوكالة أن هذه الإمدادات، ومنها ما هو مخزن في مستودع بمدينة العريش المصرية، جاهزة للتوزيع، مشيرة إلى أن الأنظمة اللوجيستية قائمة. وحذرت الأونروا من تفشي سوء التغذية بين الأطفال، بينما سجلت اليونيسف ارتفاعاً مقلقاً في عدد الإصابات، وسط نقص حاد في الغذاء والدواء، ورغم كل ذلك استمرّت القيود على إدخال المساعدات. وأعلنت وكالة الأونروا أن 750 ألف شخص في قطاع غزة يواجهون جوعاً كارثياً، مما دفع الخبراء إلى وصفها بأنها واحدة من أسوأ حالات التجويع التي صنعها الإنسان فيما يقرب من قرن.
وسجلت وزارة الصحة في غزة ارتفاعاً في عدد الوفيات جراء الجوع وسوء التغذية، وأكد تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن ثلث سكان غزة مجبرون على البقاء بدون طعام لعدة أيام في مؤشر خطير على تفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع المحاصر. يمر قطاع غزة بأسوأ حالة كارثية في تاريخه إذ تحذر منظمات دولية من خطورتها، بعدما وصل التجويع إلى المرحلة الخامسة، الخطيرة جداً على حياة الناس، وعلى تراجع القدرة على التعافي من جديد، وتتنبأ صحة غزة بكارثة وشيكة يموت خلالها العديد من الناس جوعاً، يأتي المواليد إلى الحياة أو الموت وهم يعانون من وهن العظم، ووهن العضلات معرضين لأمراض مزمنة وسوء تغذية حادّ، بلا مناعة من جوع. والأمهات يعانين سوء التغذية ولا يستطعن الإرضاع، وقد اكتظت المستشفيات بحالات سوء التغذية، خصوصاً بين الأطفال والمسنين والنساء.
ومازلنا نسمع المزيد من التنديد من قبل الأمم المتحدة باستخدام إسرائيل التجويع كسلاح حرب ضد سكان القطاع الفلسطينيين. والمزيد من التحذير أن سكان غزة يواجهون جوعاً كارثياً بسبب سياسة التجويع الإسرائيلية، مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في فلسطين حذر من أن العائلات في قطاع غزة تواجه جوعاً كارثياً، مضيفاً أن «الأطفال في القطاع يذبلون من الجوع وبعضهم يموت قبل أن يصلهم الطعام». وتحدث المكتب عن المخاطر القاتلة التي يتعرض لها سكان القطاع، مبيناً أن «الباحثين عن الطعام في غزة يخاطرون بحياتهم ويُطلق النار على كثير منهم»، ومشدداً أنه «يجب عدم استخدام التجويع سلاح حرب»، «مؤكداً أن وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق إلى غزة ضرورة قانونية وأخلاقية».
على مر التاريخ كانت حرب التجويع وسيلة استخدمتها القوى الاستعمارية لإخضاع الشعوب الواقعة تحت الاحتلال المطالبة بالاستقلال والحرية، وقد نفذ الاستعمار البريطاني مجاعة كبرى في أيرلندا (1845-1852)، وطبقت سلطات الانتداب في فلسطين خلال ثورة 1936 نهج الحرمان من الغذاء، ضمن سياسة الأرض المحروقة، كاستراتيجية عسكرية عبر عمليات واسعة، يتم فيها إحراق المحاصيل الزراعية والمنتجات الغذائية وغيرها بذريعة منع الثوار من الاستفادة منها. وقد تعرضت العديد من القرى الفلسطينية للحصار، بذريعة إيواء ثوار، كان الجنود البريطانيون يخرجون سكان القرية جميعهم من بيوتهم، ويعيثون في البيوت فساداً، يتلفون المؤن، يسكبون الزيت على الأرض، يخلطون السكر بالملح والرز بالطحين ويدعون أنهم يبحثون عن السلاح. وقد لاحظ المجتمع الدولي هذه الإجراءات فمنع البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف، تدمير الموارد الضرورية للمدنيين، واعتبرها جزء من سياسة التجويع، وهذا واضح وعلني تقوم به إسرائيل دون مبالاة بقوانين وشرائع دولية بتدمير موارد الفلسطينيين بشكل عقابي، كاستراتيجية أساسية لمكاسب سياسية، وهو ما يُحظر بموجب المادة 54 من البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977. حسب النص:
يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتج المحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، من أجل غرض محدد لمنعها لقيمتها الحيوية على السكان المدنيين أو الخصم، مهما كان الباعث سواء كان بقصد تجويع المدنيين أم لحملهم على الابتعاد، أو لأي سبب آخر.
طبّقتها إسرائيل ضد الفلسطينيين بحجة وقف تمويل المقاومة، وقد أعلنت نيتها صراحة بذلك عبر مسؤولين بارزين، وتهدف من خلالها إلى إبادة جماعية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية". وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023 فرض حصار كامل على قطاع غزة، مؤكدا أن تل أبيب لن تسمح بإدخال حبة قمح واحدة إلى قطاع غزة. وأنه لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء كل شيء مغلق، وأضاف بنزعة عنصرية «نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك».
إن مواجهة دولية صادقة لوقف حرب التجويع تتطلب عملاً عاجلاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في قطاع غزة، الجوع كافر لا ينتظر أكثر مما انتظر، المجوّع لا ينتظر إجراءات هزيلة أو تنديد وإدانة لفظية، ذكر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن محافظات شمال غزة بحاجة إلى ألف و300 شاحنة غذاء يومياً للخروج من حالة المجاعة، وذكرت مصادر طبية أن المستشفيات في غزة تستقبل يومياً مئات الحالات التي تعاني من إجهاد حاد وأعراض خطيرة نتيجة الجوع، تشمل فقدان الذاكرة ونقص الطاقة الحاد، في ظل عجز شبه كامل في الأسرّة والمستلزمات الطبية.