الكاتب: أحمد عثمان جلاجل
منذ قرون، شكلت الأوقاف الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس عمودًا فقريًا لحماية المقدسات والحفاظ على الهوية العربية للمدينة في وجه محاولات الطمس والتهويد.
وفي القلب من هذه الحماية، تقف المملكة الأردنية الهاشمية باعتبارها الجهة المسؤولة رسميًا عن رعاية الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، من خلال وصاية تاريخية تحمل أبعادًا سياسية، دينية، ووطنية.
وصاية هاشمية راسخة
تستند الوصاية الأردنية على المقدسات إلى جذور تاريخية موثقة منذ بدايات القرن العشرين، وأُعيد التأكيد عليها في اتفاقية “وادي عربة” عام 1994 بين الأردن وإسرائيل، كما تم تثبيتها لاحقًا في اتفاقية خاصة بين جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2013، والتي أكدت على أن الملك هو “الوصي على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس”.
هذه الوصاية ليست فقط رمزية، بل تتجسد في دعم فعلي لإدارة الأوقاف الإسلامية، ولقضايا الحفاظ على العقارات الوقفية، ومساندة الحضور الفلسطيني في المدينة، في مواجهة هجمة استيطانية تتصاعد وتستهدف كل ما هو غير يهودي في القدس.
المسجد الأقصى: هدف مستمر للمساس بالوصاية
يتعرض المسجد الأقصى المبارك يوميًا لمحاولات اقتحام من جماعات المستوطنين، تحت حماية شرطة الاحتلال، في مسعى مستمر لفرض وقائع جديدة على الأرض، وتقسيمه زمانيًا ومكانيًا، كما حدث سابقًا في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
لكن العامل الأساس الذي لا تزال إسرائيل تخشاه هو الدور المركزي الذي تمارسه دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، والتي تُعد المرجعية الوحيدة المعترف بها دينيًا وإداريًا من قبل الفلسطينيين والعرب والمسلمين في ما يتعلق بالأقصى.
ورغم الضغوطات ومحاولات التضييق، يواصل حراس المسجد الأقصى وموظفو الأوقاف أداء واجبهم الديني والوطني، تحت أعين الاحتلال، وبمساندة من القيادة الأردنية التي لم تتردد يومًا في إدانة الانتهاكات المتكررة.
كنيسة القيامة: حماية مقدسة وسط العواصف
لم تقتصر الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية، بل تشمل كذلك كنيسة القيامة وسائر المواقع المسيحية في القدس. هذا الامتداد الروحي للأردن يعكس رؤية شمولية في حماية نسيج المدينة المقدسة.
وقد لعب الأردن دورًا مهمًا في ترميم العديد من أجزاء الكنيسة، بالتعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة، في مشهد نادر من الوحدة والاحترام المتبادل.
العقارات الوقفية: خط المواجهة الأول
تستهدف الجمعيات الاستيطانية العقارات التابعة للأوقاف الإسلامية والمسيحية بوسائل قانونية ومادية مشبوهة، عبر صفقات تهدف للسيطرة على بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم، خصوصًا في البلدة القديمة وحي سلوان والشيخ جراح.
إلا أن الأوقاف، بدعم رسمي أردني، وبمساندة المجتمع المقدسي، تقف حائط صد أمام هذه المخططات. إذ يتم رفض بيع العقارات، وتوثيق ملكيتها، ومتابعة أي تسريب قانونيًا ودينيًا. وقد لعب هذا الجهد دورًا كبيرًا في إفشال العديد من صفقات التسريب والهيمنة.
دعم مقدسي للدور الأردني
رغم كل الضغوط، لا يزال المقدسيون يثقون بالأوقاف، ويعتبرونها عنوانًا للحماية والتثبيت. الموقف الشعبي في القدس يتمسك بالوصاية الهاشمية، ويرى فيها عنصر استقرار وضمانة لعدم الانزلاق في مشاريع سياسية مشبوهة تهدف لفصل المقدسات عن سياقها العربي والإسلامي.
إن العلاقة بين الأوقاف وسكان المدينة ليست مجرد علاقة مؤسسة بجمهور، بل هي علاقة مصير، تنعكس في كل تفاصيل الحياة اليومية، من صلوات الجمعة في الأقصى، إلى احتفالات القيامة في الكنيسة.
بين الصمود والتحدي
دور الأوقاف لا يقتصر على حماية الحجر والمكان، بل يتعداه لحماية الإنسان والذاكرة والهوية. هي المؤسسة التي لا تزال تقف في وجه التهويد، وتؤكد أن القدس ليست مدينة بلا أهل، ولا بلا روح.
وفي ظل اشتداد الهجمة على المدينة، تبرز الحاجة الملحّة لدعم هذا الدور، وتطوير أدواته، وتمتين التنسيق الفلسطيني–الأردني أكثر من أي وقت مضى. فالقدس ليست مجرد عنوان للنزاع، بل رمز لصراع الإرادة، بين من يحاول نزعها من هويتها، وبين من يتمسك بها وطنًا وعقيدة ومصيرًا.