الكاتب:
د. مروان إميل طوباسي
في ظل استمرار المحرقة المتواصلة بحق أبناء شعبنا في غزة، وما يرافقها من جرائم إبادة وتهجير قسري وتدمير شامل حتى بالضفة الغربية بما فيها القدس وتصاعد وتيرة الفاشية ضد شعبنا بالداخل ، يتكثف الحديث السياسي عن "اليوم التالي" و"الفصل الأخير"، في محاولة إسرائيلية–أميركية لصياغة واقع جديد يُخرج القضية الفلسطينية من سياقها التحرري إلى مسار احتوائي اقتصادي إنساني أمني . رغم تعاظم التضامن الدولي الشعبي ومن العديد من المواقف الرسمية لدول الجنوب العالمي والتحالفات الصاعدة ، وزيادة عزلة دولة الأحتلال ومشروعها أخلاقيا وسياسيا ، الأمر الذي يستدعي البناء التراكمي على ذلك لفضح المشروع الصهيوني واسقاطه كمسوؤلية ليست فلسطينية فحسب وانما مشروع كفاحي إنساني وتقدمي ، رغم ان الوقت قد يطول لذلك ، الا ان التاريخ لن يقف عند نقطة اليوم ولن يكون في سيرورته لصالح قوى الأستعمار والعنصرية والقهر .
ما يُطرح من مشاريع تحت عناوين "إعمار"، "مدينة ذكية"، أو "كيان إداري" يخضع لوصاية دولية–عربية ، لا يُخفي جوهره السياسي والمتمثل في ، ضرب البنية الوطنية لغزة بعد تدميرها وجعلها مكانا غير قابل للحياة وفرض ما يسمى بالتهجير الطوعي ، وفصلها بالنتيجة عن المشروع الوطني العام ، وتحويلها إلى كيان هامشي منزوع السيادة باستمرار وجود قوات الأحتلال بأجزاء كبيرة منها مقابل هدنة ٦٠ يوما لا تُعرف تفاصيلها بعد أو حتى بمدى قبول الأحتلال بمعايير الافراج عن القادة الأسرى مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعبدالله البرغوثي ورفاقهم ، ودون إنهاء اشكال العدوان او العودة للحرب بأشكال مختلفة لاحقا . هذا بالتوازي مع تحويل الضفة إلى معازل كانتونية تحت هيمنة استيطانية مباشرة . هذه الرؤية لا تختلف في جوهرها عن نُظم "البانتوستانات" العنصرية التي عرفها التاريخ ، وهي اليوم تجد غطاءً ضمن مشاريع الإدارة الأميركية للمنطقة بما يخدم مشروع "إسرائيل الكبرى" في إطار "الشرق الأوسط الجديد" .
لكن الأخطر ، أن هذا المشروع يجد بيئة خصبة داخلياً ، نتيجة للأزمة العميقة التي يعاني منها نظامنا السياسي الفلسطيني وعدم امتلاك شعبنا لمقومات الصمود سوى الإرادة الوطنية . تأثير اجراءات وجرائم الأحتلال المستمرة في كل مكان ومحاولات تقويض دور السلطة الوطنية ، الانقسام القائم السياسي وتأثيراته المجتمعية ، والشلل المؤسسي والقرارات الحكومية ومنها التعليمات للبنوك واستمرار ذريعة ربط الرواتب بالمقاصة التي تكرس واقع أستعماري فريد من نوعه في هذا العالم ، والتي باتت جميعها عبئاً على الفئات الشعبية والموظفين العموميين ، في ظل ظروف اقتصادية كارثية وغياب جاد لمراقبة الأسواق والأسعار ، كلها تُسهم في إضعاف قدرة المجتمع على الصمود وتُعمّق حالة الانفصال بين المواطن والسلطة الوطنية التي كان يفترض ان تكون معبراً لاقامة الدولة المستقلة ،
الأمر الذي لم يتم كما لم يتوقف الأستيطان بل توسع الى ابعد الحدود وما زال وفق المخططات الجديدة المعلنة . إلى جانب ذلك ، تتصاعد مظاهر "تجارة الحرب" في غزة كما في الضفة ، وتستفيد بعض مراكز النفوذ من الحالة الراهنة لإعادة إنتاج مواقعها على حساب الدم الفلسطيني .
وفي هذا السياق ، فإن قرار الدعوة لإجراء انتخابات مجلس وطني جديد ، ورغم أهميته من حيث المبدأ كاستحقاق ديمقراطي وطني ، ما زال يفتقد إلى الوضوح في آليات التنفيذ ومعايير المشاركة . فكيف يمكن الحديث عن شمولية العملية الانتخابية في ظل إبادة وتدمير جارية في غزة ، وغموض يلف مشاركة الشتات والمقدسيين ، ومعايير أولية لا تؤمن بوضوح مشاركة الكل الفلسطيني من ابناء هذا الشعب خلافا لمبدأ أن الفلسطيني الذي بلغ الثامنة عشر هو عضو طبيعي في منظمة التحرير وشريك في تقرير المصير ؟ كما وتبدو هذه الانتخابات بصيغتها المطروحة بانفصال عن أجراء عملية استحقاق الانتخابات الرئاسية والمجلس التشريعي وضروراتها الغائبة منذ عقدين ، وكأنها أداة شكلية تُقدم على جوهر الحاجة إلى رؤية سياسية وطنية جامعة تكون الأولوية في هذه المرحلة الحرجة والمفصلية ، وعن غياب الرقابة على الاداء الحكومي ومبدأ فصل السلطات ، رغم اهمية اجراء الانتخابات الدورية ومكانة المواطن وحقوقه ومبدأ المواطنة بالدولة المدنية .
أمام هذا المشهد ، لا يمكن البقاء في موقع الترقب أو إدارة الأزمة فقط . لا بدّ من الانتقال إلى الفعل السياسي النوعي ، وذلك من خلال إعلان الدولة الفلسطينية تحت الأحتلال ، استناداً إلى مبدأ حق تقرير المصير للشعوب وأعتراف ١٤٩ دولة بها والقرارات الأممية بالخصوص التي نصت على ذلك ، ومن خلال تشكيل حكومة إنقاذ سياسية بتوافق وطني على قاعدة الشراكة التمثيلية الواسعة ، بهدف كسر معادلات الهيمنة المفروضة على المنطقة ، كما داخليا وخارجيا على العمل السياسي الفلسطيني وفقا للأشتراطات والتدخلات الأمريكية والأوروبية التي أتى بها "طوني بلير" مرتكب جرائم حرب العراق .
هذا الغرب الذي أصدر بالامس بيان تنديد وإدانة ورعب وحتى حزن بشأن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة ، وتُوجهُ "بمناشدات" للجاني من أجل السماح ببعض المساعدات لغزة ، هذا الأمر يزيد معاناة شعبنا من خلال فقط تصريحات عقيمة ، في الوقت الذي يحافظ فيه مكون هذا الغرب على علاقاتهم "الخاصة" وتواطئهم مع إسرائيل .
العقوبات والمحاسبة والمقاطعة المرتبطة بموقف سياسي وليس إنساني فقط هي التي ستؤتي بنتائج .
،كما وان والتدخلات الإقليمية من بعض العرب الذين سددوا فواتير حمايتهم لترامب ويسعون الان الى محاصرة مصر ولبنان كما حاصروا وأسقطوا الدولة السورية التي باتت اليوم ساحة قتال وتفكيك لكل مكوناتها برعاية الشرع الجولاني . وإعادة الأعتبار لقضيتنا كقضية تحرر وطني لا قضية إنسانية مؤقتة .
هذا الإعلان بشأن الانتخابات ، وتلك الحكومة ، يجب أن يُعززا المسار الوطني التحرري الفلسطيني في مواجهة مشروع التصفية ، لا أن يشكلان مخرجات تفاهمات دولية غربية تُفرض على شعبنا . فالإرادة السياسية الفلسطينية الجامعة المستقلة وحدها وتوارث الاجيال صاحبة الحق والأرض ، هي القادرة على إفشال ما يُراد فرضه علينا من عواصم القرار الدولي ، وإعادة بناء وحدة القرار والمؤسسة ، لا من خلال الإقصاء أو المحاصصة او الأستفراد ، بل عبر التوافق الوطني والمواجهة المشتركة ، على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية الوطنية ، وإعادة الأعتبار لقضيتنا كقضية تحرر وطني لا قضية إنسانية مؤقتة نستجدي المساعدات والحقوق بها على عتبات ابواب العواصم .
لقد آن الأوان لكتابة الفصل الجديد من تاريخنا الوطني دون الأكتفاء بتذكر التاريخ السابق ، لا في تل أبيب أو واشنطن أو الدوحة ، بل في القدس ورام الله وغزة ومخيمات الوطن والشتات ، وبيد أبناء شعبنا وحركته الوطنية وبالمقدمة منها "فتح" التي تنتظر بالضرورة الوطنية انعقاد مؤتمرها العام الثامن بهدف حاجة أستنهاضها كحركة تحرر وطني لا حزباً للسلطة أو تياراً ليبرالياً هلامي ، ووفق رؤية ترتبط بالإرادة والتصميم والجرأة والعقلانية السياسية وبالحقوق الغير قابلة للتصرف التي أقرتها لنا الشرعية الدولية وأولهما القرار الأممي ١٨١ والقرار ١٩٤ ، لا وفق خرائط ومصالح الآخرين .