الثلاثاء: 22/07/2025 بتوقيت القدس الشريف

النكبة الفلسطينية الثانية

نشر بتاريخ: 22/07/2025 ( آخر تحديث: 22/07/2025 الساعة: 12:58 )

الكاتب: د.سعيد زيداني

ما حدث للفلسطينيين منذ الثامن من شهر أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠٢٣، وما زال يحدث حتى الآن، لا يقل في هوله عن ما حدث لهم خلال الفترة من نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٤٧ (قرار التقسيم) وحتى بداية صيف عام ١٩٤٩(آخراتفاقيات الهدنة). فما حدث منذ الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى الآن هو حقاً نكبة جديدة، وإن اختلفت في ملامحها عن النكبة الأولى، النكبة الأم. فعناصر النكبة متوفرة في الحالتين، وإن اختلفت أوزان ومراكز ثقل هذه العناصر وطبيعة العلاقة بينها من نكبة لأخرى. هذه العناصر هي التالية: المجازر وتدمير المكان والبنيان والتهجير القسري. فالتهجير القسري أو التطهير العرقي كان عنوان النكبة الأولى، وكانت المجازر إحدى وسائله، وكان هدم مئات القرى وأحياء في المدن لغرض سد الطريق في وجه عودة اللاجئين والمهجرين. اما في النكبة الحالية، نكبة قطاع غزة أساسا، فإن الإبادة الجماعية هي العنوان، وكانت المجازر الكثيرة اضافةً إلى تدمير المكان والبنيان، هي التجليات الرئيسة لها، بينما ظل التهجير هدفاً معلقاً. هذا الفارق بين النكبتين، نكبة التهجير (التطهير العرقي) ونكبة التدمير(الإبادة الجماعية)، يفسر، من بين أمور أخرى، ذلك الخراب الهائل في البنيان في قطاع غزة وذلك التفاوت الهائل في أعداد القتلى والمصابين والمفقودين بين النكبتين.

وإذا كانت النكبة الحالية هي اساساً نكبة قطاع غزة، فإنها ليست كذلك حصرياً. فمنذ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠٢٣ والضفة الغربية تدفع باهظ الأثمان نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة. وأثقل هذه الأثمان يتمثل في تخريب مخيمات شمال الضفة الغربية وتشريد عشرات الآلاف من السكان. كما ويتمثل في قتل وإصابة آلاف الفلسطينيين وفي عربدة وعنف قطعان المستوطنين (المسلحين والمنفلتين) وفي الحصار الخانق للمدن والقرى الفلسطينية وفي تصاعد وتيرة هدم المنازل ومصادرة الأراضي وفي إنهاك السلطة الفلسطينية مالياً وإداريا وفي سوء معاملة آلاف السجناء والموقوفين، والذين تضاعفت أعدادهم وقضى منهم في عتمة السجون ما يزيد عن ٧٠، وهكذا. كما ويدفع فلسطينيو الداخل بدورهم باهظ الأثمان على مستوى الملاحقة السياسية وتفشي خطاب الكراهية والانتقاص من الحقوق والحريات، أثمان لم يعتادوا على دفعها منذ نهاية فترة الحكم العسكري قبل ستين عاماً. وأحوال اللاجئين الفلسطينين في دول الجوار العربية، كأحوال تلك الدول ذاتها، لا تبشر بالخير(أقل ما يقال). بكلمات أخرى، هي نكبة محورها قطاع غزة، ولكن محيطها يطال الفلسطينيين جميعاً.

واذا كانت نكبة التهجير لازمة من وجهة نظر الحركة الصهيونبة وانصارها لغرض إقامة الدولة اليهودية في فلسطين وتمتين عودها، فإن نكبة التدمير الحالية لازمة من وجهة نظر دولة إسرائيل وانصارها لغرض تفكيك القضية الفلسطينية وإرساء دعائم الهيمنة الامريكية/ الصهيونبة على مستوى الإقليم وأبعد. وباختصار، نتيجة لنكبة التهجير خسر الفلسطينيون، خسرنا، الاستقلال الوطني والدولة؛ ونتيجه لنكبة التدمير، أخشى أن مشروع الاستقلال الفلسطيني والدولة قد اصبح على بعد جيل. فما العمل؟ وما هي الأولوية التي يصرخ بها الميدان حالياً؟

الأولوية التي يصرخ بها الميدان حالياً هي ضرورة الوقف الدائم لإطلاق النار، والذي يفسح المجال لإغاثة الغزيين المجوعين ويسدّ الطريق على تتويج نكبة التدمير بالتهجير. اعرف أن تفاصيل مشروع الاتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى غاية في الأهمية، وأعرف ايضاً أن الشيطان يختبيء كعادته في التفاصيل. ولكن إنقاذ الناس من التهجير أو/ والموت جوعاً هو الأولى والأكثر الحاحاً. هذا ما يجب ان يذوته المفاوض الحمساوي ودليله العربي في كل من الدوحة والقاهرة. فالوقت من دمع ودم وأكثر! ومن جهة ثانية، اعرف، كما تعرفون، أن الحصول على اعتراف مزيد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية بالدولة الفلسطينية غاية في الأهمية، وأن عقد المؤتمر الدولي برئاسة فرنسا والسعودية نهاية هذا الشهر لغرض المناداة بتجسيد الدولة الفلسطينية لا يقل أهمية عن ذلك. ولكن إنقاذ الغزيين من التهجير ومن أنياب الجوع هو ألأولى والأكثر الحاحاً. وكذا أقول لمروجي مبادرة "الدولة الديمقراطية الواحدة" ومبادرة "دولتان، وطن واحد" وغيرهما من المبادرات بشأن مواصفات الحل النهائي الأمثل أو الأعدل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكذا أقول ايضاً لمن ينادي بالانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني في الظروف الراهنة. أكرر: الأولى والملح حالياً هو الوقف الدائم لإطلاق النار، والذي يفسح المجال لإغاثة المجوعين والمرضى في غزة، والتي بدونها، أي الإغاثة، يتعذر إحباط مخطط التهجير. وأي شأن آخر، مهما كانت درجة أهميته، يأتي تالياً.

من المؤسف والمؤلم حقاً أن دول العالم الواسع بعامة، والدول العربية بخاصة، عاجزة عن إغاثة المجوعين والمرضى من الغزيين. والعجزهنا ليس مرده نقص الأموال أو النوايا الحسنة أو الجاهزية للاستجابة السريعة لنداء الوآجب الأخلاقي/ الإنساني، وإنما نقص القدرة أو/والإرادة للتصدي جدياً لإجراءات إسرائيلية مانعة ومنافية للقيم الأخلاقية الأساسية ولأحكام كل من القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي ولقرارات محكمة العدل الدولية. وهو عجزيطال الحكام والشعوب والمحافل الدولية على حد سواء. وفي المقابل، تقوم الولايات الأميركية، إدارتها الحالية والسابقة، بتقديم الدعم العسكري والمالي السخي، وبتوفير الحماية القانونية والسياسية الفاعلة لدولة احتلال ترتكب جريمة الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع كلّ الدنيا. كما وتقوم بردع وإخافة كل من يعمل على مساءلتها ومعاقبتها. الولايات المتحدة، دون شك، شريك في كل ما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم، ومن ضمنها جريمة التجويع في غزة.

وللإجمال أقول: الأولويات يحددها ويفرضها ما يحدث في الميدان، وليس ما يحدث داخل رءوس النخب الحاكمة وغير الحاكمة. والميدان حالياً، ومنذ أكثر من ٢١ شهراً، هو غزة، أرضها وناسها. وما يحدث لأرض غزة وناسها هي إبادة جماعية، آخر وأقسى تجلياتها التجويع حتى الموت الذي اصبح يتهدد الآلاف من الغزيين، كباراً وصغاراً، نساءا ورجالاً. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأولوية، زمنياً ومن حيث الإلحاح، تكمن في العمل، وبأقصى درجات المثابرة والجدية، من أجل إنقاذ الغزيين من أنياب الموت جوعاً. وهذا يتطلب عمل الكثير، من قبل الفلسطينيين والعرب والمسلمين وغيرهم من المتضامنين والمتعاطفين، لوقف الحرب وويلاتها، والتجويع على راس تلك الويلات حالياً. لقد بينت تجربة الشهور ال٢١ الماضية أن البكاءيات ونداءات الاستغاثة لا تنفع، وأن قرارات القمم العربية والهيئات الدولية لا تردع لخلوها من أنياب العقوبات. ربما قد حان الأوان لكي يخرج الفلسطينيون أينما أقاموا بصوت واحد ونداء واحد إلى الشعوب العربية وغير العربية لكي تسمع صوتها في الميادين العامة، وتعبرعن ساطع غضبها، رافعة شعاراً واحداً يقول "أوقفوا الإبادة الجماعية، أغيثوا المجوعين في قطاع غزة "! فصوت الشعوب، إذا صرخت عاليآ وكان غضبها ساطعاً، قلما يخيب.