الكاتب: مصطفى ابراهيم
حوّل الموت إلى أداء جماعي مقدس، ويُنتزع من سياقه السياسي. في المقابل، يُعامل موت الفلسطينيين كمعلومة فنية، أو كأضرار جانبية لا تستحق الذكر. إنها مساواة في التشييء: موت مُبجَّل هنا، وموت صامت هناك.
في سياق حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، لا يمكن قراءة سياسة الحصار والمجاعة بوصفها نتيجة جانبية للحرب، بل باعتبارها أداة أساسية من أدواتها. فالتجويع ليس مجرد أثر عرضي، بل أسلوب ممنهج يُستخدم لتفكيك المجتمع الفلسطيني، وإخضاعه، وكسره نفسياً وجسدياً.
لم تكتفِ إسرائيل بالهجمات العسكرية التقليدية، بل فرضت نظاماً دقيقاً للتحكم في حياة الفلسطينيين، بحيث أصبحت المساعدات الإنسانية نفسها جزءاً من منظومة العقاب الجماعي. لم يكن هذا النظام عشوائياً، بل نتيجة تصميم واضح لفرض نموذج تمويني يتحكم به الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع “جمعية غزة الإنسانية”، بالتوازي مع تدمير البنية المدنية المستقلة التي كانت تدير عمليات الإغاثة داخل القطاع.
والنتيجة: شلل كامل في شبكات توزيع الغذاء والماء والدواء، وتجميع قسري للسكان في مناطق مثل رفح، في محاولة لدفعهم نحو الانهيار أو التهجير الجماعي.
وقف إطلاق النار لا يضع حداً لهذه السياسات؛ فحتى في غياب القصف، تواصل إسرائيل التحكم بالمنافذ والمعابر والمواد الحيوية، ما يجعل أي وقف لإطلاق النار سطحياً وغير كافٍ. الحرب الحقيقية ليست فقط في الطائرات والدبابات، بل في سياسات الإفقار المتعمَّد، والموت البطيء، وتفكيك القدرة الجماعية على البقاء. الإبادة لا تحتاج إلى قنابل، بل يكفيها التحكم بالحياة اليومية للفرد: الطعام، الماء، الرعاية الصحية، والمأوى.
المفارقة المؤلمة أن هذا كله يحصل في ظل صمت دولي فاضح، وانفصال أخلاقي لدى كثيرين ممن يتابعون الحرب من خارج غزة. في مقاهٍ مكيّفة، أو فنادق ومكاتب أنيقة، يعقد بعضهم الصفقات ويُصدرون البيانات، وكأن ما يحدث في غزة مشهد بعيد لا يعنيهم.
البعض، من داخل العالم العربي نفسه، يراقب الحرب كما لو كانت نشرة أسعار عقارية، أو فرصة لإعادة الإعمار، لا كارثة إنسانية وأخلاقية شاملة. أما الإعلام الغربي، وحتى داخل إسرائيل نفسها، فقد بدأ أخيراً في انتقاد ما يسميه “أخطاء الحكومة اليمينية المتطرفة”، لكنه قبل أسابيع فقط كان يشارك في تقديم “نصائح استراتيجية” لكيفية حسم الحرب.
تحوّل خطاب الحرب إلى مسألة إدارية داخلية، لا تتناول جوهر المشروع الاستعماري القائم على الإبادة والسيطرة. فالمسألة، في جوهرها، ليست حربًا ضد تنظيم مسلح أو ردًا على تهديد عسكري، بل تعبير عن عقيدة صهيونية قديمة: تطهير الأرض من “المشكلة الفلسطينية”.
هذا المشروع لا يميّز بين فصيل سياسي وسكان مدنيين. كل غزة، ككيان ومجتمع ومساحة، تُعامل باعتبارها عدوًا. كل فلسطيني يصبح هدفًا محتملاً، وكل بنية مدنية تُصنَّف على أنها بنية تهديد. يتداخل المفهوم الأمني بالهوية القومية، بحيث تصبح الحرب امتدادًا لسياسات الهوية، لا لسياسات الأمن. ولهذا، فإن قتل الفلسطينيين لا يُعد جريمة، بل ضرورة. وأي محاولة لفصل حركة حماس عن غزة تُعتبر تهديدًا لاستراتيجية الإبادة ذاتها.
هكذا يتحوّل الموت إلى أداء جماعي مقدس، ويُنتزع من سياقه السياسي. في المقابل، يُعامل موت الفلسطينيين كمعلومة فنية، أو كأضرار جانبية لا تستحق الذكر. إنها مساواة في التشييء: موت مُبجَّل هنا، وموت صامت هناك.
الحقيقة التي لم تعد خفية، هي أن هذه إبادة جماعية. كانت كذلك منذ البداية، لكنها اليوم أوضح، وأشد قسوة، وأكثر توثيقاً. لم يكن الأمر يوماً يتعلق بالأمن، أو الانتقام، أو حتى بالأراضي فقط، بل بهوية كاملة لا ترى للفلسطيني مكانًا في الجغرافيا أو في الرواية.
لذلك، فإن أي حديث عن وقف إطلاق النار لا معنى له إن لم يقترن بتفكيك أدوات الهيمنة، ورفع الحصار بشكل كامل، وعودة السيطرة الفلسطينية على توزيع المساعدات، ومحاسبة من استخدم الجوع كسلاح.
لا يمكن لهذا المشهد أن يُقرأ كحرب عادية، ولا أن يُفهم ضمن سرديات عابرة عن الصراع. إنه مشروع إبادة مكتمل العناصر، واضح الأهداف، ويعمل وفق منطق هندسي مرعب.