الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

المتوكل طه في روايته "نساء أويا": معمار روائي مدهش وشخصيات بين الواقع

نشر بتاريخ: 25/07/2015 ( آخر تحديث: 25/07/2015 الساعة: 16:42 )

الكاتب: د. عزيز العصا

المتوكل طه؛ كاتب- شاعر- قاص- روائي فلسطيني، يحمل درجة الدكتوراة في الأدب. له عشرات الكتب، ومئات المقالات في الأجناس الأدبية المختلفة. أما الأصل في هذا كله، فهو أنه شاعر استلّ قلمه من طفولته وقاوم الاحتلال؛ فكتب القصائد الثورية التي تحض الشعب على التمرد على الاحتلال وتحطيم القيد، فاستثار الاحتلال الذي نكّل به، واعتقله عدة مرات وفرض عليه الإقامة الجبرية.
إن الدخول في حِمى المتوكل طه، وتناول نتاجه الأدبي والفكر يعني أنه عليك أن تشمّر عن فكرك وإمكاناتك وقدراتك؛ لكي تقارع الحجة بالحجة، ولكي يكون للحوار نتائجه التي تضئ للقارئ دروب النقد والأدب والعلاقة الجدلية التي تربطهما معًا.

أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده، فهو روايته "نساء أويا"، الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى في العام (2014)، وتقع في (224) صفحة من القطع المتوسط. 

منذ السطر الأول في روايته، يمتشق "المتوكل" قلمه لينهل من لغة رقراقة، ممسكًا بنواصي الكلمات والعبارات، التي تحتاج إلى قارئٍ متأنٍّ متسلحٍ بقدرٍ كافٍ من الصبر والرغبة في قراءة النص، وفهم وإدراك ما وراء النص، كما يحتاج إلى مستوى عالٍ من الجدية التي تمكنه من السيطرة على الأفكار والتعامل معها، بما يعينه على الفهم والمتابعة حتى النهاية، لما تتمتع به من مستوى متقدم من الأهداف والمرامي، التي يسعى الكاتب إلى الوصول إليها من وراء ست سرديات توزعت عليها الرواية، لكل سردية منها هيكل خاص بها تتكئ عليه الفكرة، ببعديها: العام والخاص، حتى تبدو لوحة تم اختيار كل صغيرة وكبيرة فيها بعناية فائقة؛ لكي تكون في المكان الذي أريد لها أن تكون فيه.

تتمركز البنية المكانية للرواية على أرض ليبيا الواسعة، وإن كان النصيب الأكبر لها يتمركز في طرابلس؛ المدينة الليبية التي أمضى الكاتب فيها أيامه سفيرًا لبلده (فلسطين) خلال الفترة (2011-2013)، وتمتد تلك البنية لتشمل فلسطين التي تتصل مع ليبيا من خلال شعبي البلدين اللذين ينتميان لأمة واحدة ودين واحد ومشاعر وآلام وآمال واحدة. وقد شملت العديد من المدن والقرى والزنقات الليبية التي شهدت مسرح الأحداث، كما شملت عددًا من المدن الفلسطينية. أما البنية الزمانية، وإن كانت تتمركز في الحقبة التي حكم فيها الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، إلا أنها تمتد في عمق التاريخ إلى ثلاثة آلاف عام، مرورًا بالقرنين الخامس عشر والسادس عشر والقرن العشرين. 

يقدم "المتوكل" لقضيته الروائية بالسردية الأولى التي خصصها لخطاب مطول، على مدى تسع صفحات، على لسان البطلة الرئيسية للرواية "مليكة" التي تم اختيار اسمها بعناية للدلالة على تجذر هذا الإسم في الثقافة الليبية، وما سيرافقه من أسماء أخرى للشخصيات الثانوية الأخرى في الرواية، مثل: مليحة، وملّوك، وملاتش، وملكة، وملكات وملاك وملك ومالكانا وملكوت. 

وأما الثيمة (القضية) الروائية، فهي الظلم الاجتماعي-السياسي، الذي تعرض له الشعب الليبي في مراحله التاريخية المختلفة"، بخاصة المرأة التي كان قدرها أن تدفع ثمن هوس و/أو شذوذ الذكر القائد أو الحاكم أو الزعيم أو الأمير... الخ، الذي يدفع بها إلى أتون جنونه وساديته وماسوخيته؛ لتكون الوقود الذي يشبع رغباته "الانحرافية" دون أي وازع من خلق أو أخلاق أو قيم إنسانية. وقد قام الكاتب، الذي أخذ دور الراوي، ببناء شخصيات الرواية؛ البطل والشخصيات الثانوية، من الجنس الأنثوي بشكل شبه سائدٍ في الرواية. 

وبالتالي؛ يمكننا القول بأن الرواية "نسوية" بقلم ذكوري، حيث تم فيها توظيف الجسد الأنثوي وتفاصيله في النص، كما بيّن حجم الأذى الذي تتعرض له المرأة من الذكر الموصوف أعلاه، وإن كان يتم توظيف المرأة نفسها كأداة في يده لإيذاء بنات جنسها. كما أن هناك في النص شخصيات ذكورية قام الكاتب ببنائها، كشخصيات ثانوية ومساندة، تشكل أدوات في يد الظالم الرئيسي لينتهي أمرها إلى عالم المجهول الذي يستبيح النفس البشرية، حتى يصل الأمر إلى إفقادها ذكورتها بالكامل بأن يتم "تعقيم" الحرّاس منهم؛ لضمان انفراد الحاكم-الساديّ بجسد المرأة والسيطرة على المشهد والتحكم في تفاصيله الدقيقة.
وأما من حيث السرد الروائي, فقد تقاسم الكاتب دور الراوي مع الشخصية-البطل، في بناء المشاهد الدرامية، التي تراوحت بين الغموض والوضوح، والتي أراد الكاتب لها أن تكون جليّة وقادرة على كشف الرمزيات، بمستوياته المختلفة التي بذرها في الثنايا النصوص لكي يستنبت في روايته جمالًا ومذاقًا منحا الرواية هويتها الخاصة بها.

وقد جاءت الحوارات مع الشخصيات المكونة للرواية، بصيغ "استنطاق" لتلك الشخصيات، بخاصة النساء؛ لأن "مليكة" لا تحب أن تستنطق الرجال، وأن نتائج هذا الاستنطاق وفحواه مستمدة من السيرة التأريخية المكتوبة و/أو المحكية لكل شخصية على حدة، حيث استحضرتها البطلة، تلك التي تجمع بين الشخصية الحقيقية والتخيّلية والأسطورية في آنٍ معًا؛ فهي حكواتي محترف يضئ الزوايا المعتمة، وتمتلك الأشرطة السينمائية، كما أنها قادرة على قراءة التراب، ومعرفة سيرة حياة صاحبات حفنات الرمل التي تذرّيها. ولا يحتاج الأمر منها سوى أن "تقبض حفنة من تراب، وتدسّها في جراب قماشي أبيض، وتغلق عليه برباط، وتودعه جيبها.

لم يخلُ السرد من الفكاهة الممزوجة بالألم التي تجعل الكاتب "يضحك من تعب"، كما عني الكاتب بأن يمتع القارئ بعبارات وجمل تتداولها الشخصية-البطل، الليبية الأصل والفصل والتسمية، باللهجة الليبية الأصلية، كما أورد العديد من عناوين الجغرافية والمواقع الليبية، والشعارات التي قرأها الكاتب على ما تبقى من جدران طرابلس وحيطانها القائمة، بعد الثورة وما تلاها من حرب أهلية أهلكت الحرث والنسل. وهكذا؛ يكون الكاتب قد منح الرواية هويتها الليبية إلى جانب هويته الفلسطينية.

أما الركائز التي تتكئ عليها نصوص السرديات، فقد توزعت على قضايا وشخصيات تراوحت بين الحقيقية، مثل: السفير وحارسه وصاحب المبنى والقذافي الذي حكم شعبه بالحديد والنار وأمنه ومخابراته، والأسطورية الناجمة عن استحضار الأرواح واستنطاقها، وشخصية "مسعود" الأسطورية الذي يذيب الحديد بنظرة منه، أو تلك المغارة المسكونة بالأرواح أو الأفاعي المائة المطيعة للعجوز. كما شملت السرديات أناس شريرون، بلا حدود، ولا يقيمون أي حساب للنفس البشرية.

ومن يتابع شخصية مليكة-البطل، وما تتمتع به من سمات وخصائص وإمكانات وقدرات على السيطرة على الزمان والمكان والقدرة على الإقناع، يصفها الكاتب بأنها "الشخصية الموسوعية الغامضة الواضحة"، التي إذا حضرت مجلسًا فإنها "تبث في دواخل الحاضرين موجات عميقة نافذة مباشرة إلى ضمائرهم؛ فيقولون ما في خواطرهم، مهما كان القول صادمًا". 

حتى أن الكاتب يدور معها على المقابر؛ تساوقًا واحترامًا لمشاعرها، وليس قناعة بما يعتقد أنه ادّعاء لطيف بقراءة سيرة الناس من ترابهم الفاني، فاصطحبها قرابة ثلاثين مرّة حمعت من خلالها ما جمعت من حفنات رمل ، وكانت تُجلسه وتسرد عليه قصة كل صاحبة حفنة تراب على حدة، لينتهي الأمر بخمس وعشرين حفنة شكلت أكثر من نصف الرواية، آخرها حفنة "مليكة" نفسها التي تنثال ذرات رملها من بين أصابع الكاتب، كما كانت تفعل "مليكة"، فتخرج من عبّ الشمس وتهمس في أذنه: دثّرني، واتل عليّ صلاتك، فكل المرّات التي قُتِلتُ فيها دُفنت من دون صلاة أو ثوب عروس".

في هذا كله؛ يمكن القول بأن الشخصية-البطل قد تفوقت على الكاتب فساقته، حتى النهاية، إلى حيث تريد هي، فحتى بعد موتها يقول الكاتب: "حملقتُ في المرآة المواجهة للسرير، وأقسم أنني رأيت وجه مليكة يحتل المرآة". 

أما العمق المعرفي للنص؛ فقد وجدته يركز على المحاور والمرتكزات التالية التي شكلت الهيكل الفكري والفلسفي والسياسي والمعلوماتي للرواية، منها:
أولاً: نموذج الانتماء للوطن:
ففي سرديته الثانية يصف "المتوكل" الوطن بأنه "مثل الكعبة؛ كله محراب"، ثم يتجلى في وصفه لليبيا وللشعب الليبي على لسان الشخصية-البطل، المتحيزة لكل ما هو ليبي، التي ترى في شعبها بأنه شعب جواد تغلبه بساطته، والليبيون عقلاء؛ عندما ظلوا محافظين على رباطة جأشهم رغم كل ما فعله بهم "الطاغية"، إلا أن اللعنة الوحيدة هي خلافات الأشقاء، وعدم استماع الأخ إلى أخيه. 

ثم تطل الشخصية-البطل على الشعب الليبي بخطبة، شعرية وشاعرية، تتألف من أكثر من أربعين مقولة-نصيحة تشكل "صرخة" مدوية يدعوهم فيها إلى أن "يختلفوا ويتقارعوا كالفرسان"، قائلًا: إذا كانت الجنّة هي ما تبحثون عنه، فإن الله أعطاها لكم". وفي ذلك وعظ وإرشاد قد لا يكون من مهام الرواية.
وما إن يبدأ الكاتب في انتقاد الأوضاع في ليبيا وتشخيص واقعها المشبع بالوجع، إلا وتنبري له الشخصية-البطل "مليكة" مدافعة ومبررة وفق ما أسماه "مغالبة مخاوفها بالسخرية مما تخشاه (على بلادها)؛ لتحط من شأنه وتشعر أنها تنتصر عليه"، وعندما عادت إلى نفسها، قالت: حرام اللّي بيعملوا في حالهم!".
ثانيًا: المرأة وبشاعة الظلم الواقع عليها:

تميزت الغالبية العظمى لمشاهد هذه الرواية وتفصيلاتها بوجود المرأة في مواقف مختلفة، إلا أن أكثر تلك المواقف إيلامًا الظلم الممارس بحقها، ببشاعة منقطعة النظير. وقد غطت قصص ذلك الظلم وأشكاله وصوره، ما يقارب ثلثي حجم النص. فشكلت الحفنات الخمس وعشرين، منفردة ومجتمعة، فهمًا لدى القارئ بأن المرأة على أرض ليبيا قد انتهكت كرامتها عبر العصور والأزمنة، وتجلى ذلك في مواقف عديدة، منها:

1) الخطف والقتل والتعذيب على خلفية سياسية، كقضية عائشة؛ فتاة ليبيا وشاعرتها التي خرجت مع الثائرين، تنادي برحيل الطاغية، فتم الزّجّ بها في المعسكر وانتهك عرضها وأذيقت صنوفًا من العذاب والحرق والكسر والخلع والتكسير، ما أودى بحياتها.

2) تدفع ثمن الذكورة الشرسة، التي ترى في المرأة مجرد جسد وأعضاء تطفئ شهوته الحيوانية، كقضية "برنيّة" التي قضت بعد أن قام "عريسها!!" ببقر رحمها؛ فماتت نزفًا.

3) وظيفة المرأة "التفريخ" وليس الإنجاب، كقضية "شاقي"؛ وهو الزوج الذي يتزوج عشرين امرأة ينجب منهن أكثر من مائتي إبن وإبنة، ولكنه يمنع أيًا منهن من التعرف على ابنها الحقيقي، وذلك بأن تعصب عيون الأمهات بقطع صوفية خشنة عند الوضع، ويأتون بالرضيع، فيلقمون كل رضيع صدرًا. أما من ينظّم لشاقي هذا كله، فهي " أوجا" التي "تعد!" المرأة التي يرغبها "شاقي" أو تساق إليه.

4) استباحة المرأة في الغزوات القبائلية، كما جرى مع "مالكة" الحرّة الشريفة التي تأخذها القبيلة "المنتصرة" عنوة التي قررت أكل عشبة سامة، حتى وقعت وفي أذنها بكاء وليدها الذي لم يبلغ الأربعين يومًا. 

5) مفاهيم وعادات غير مألوفة في مجتمعات أخرى، كعادة الأب الذي لا ينبغي أن يرى ابنته وقد أصبحت امرأة، وعليها أن تتجنب رؤيته إن تكور بطنها وحملت. وخرافة "تصفيح" البنات التي تعتقد النسوة بأنها توظف جنّيًا يسكن رحم البنت ليحرسها ويمنع عنها الانزلاق نحو الرذيلة.
ثالثًا: الرمزية والوصف التفصيلي:
هناك مشاهد ومواقف توقف عندها "المتوكل" مطوّلاً وهو يصف ويجزل في الوصف، مستنهضًا ما توفر في جعبته الواسعة من المترادفات والمعاني والمفردات، التي شكلت لوحات لغوية ومفاهيمية جميلة. وقد لوحظ ذلك في عدة مواقف، منها:

وصف "الشخصية-البطل "مليكة"، التي تناول خصائصها وسماتها وخصالها وعاداتها وثقافتها الموسوعية... الخ، في إشارة منه إلى مصادر المعلومات في هذه الرواية متعددة ومتشعبة وواسعة، تمتد من عمق التاريخ إلى يومنا هذا. كما أنها تشمل الساكن والمتحرك والإنسان والجماد على أرض ليبيا.
توقف "المتوكل" عند "أويا" بالوصف والشرح وتعداد الخصائص والسمات، على مدى ثماني صفحات، معتقدًا أن "قوة المكان في أويا هو مصدر غيرة أبنائها". وقد جاء ذلك في الحفنة الأولى التي تصور موت عائشة الليبية على يد القذافي وعسكره، كما أن "مسعود" الذي ساعد المقاومين، والذي تحبه الطيور والأشجار والنساء هو أجمل فتيان "أويا". ومن هنا استمدت الرواية عنوانها كمكان انطلقت منه الثورة على القذافي ونظامه.

تكرر في الحفنات، إنهاء المتوفاة صاحبة الحفنة قصتها بقول: ".... فيما حلّق عصفور فوق رأسي حام وناح، وألقى بالجوار قطعة قماش بيضاء، ثم سقط وتحول إلى حفنة من تراب". وفي هذه العبارة رمزية تشير إلى حجم الظلم والقهر الآدمي الذي تنوح منه حتى الطيور في السماء التي تتضامن مع المغدورة وتموت إلى جانبها، وأما قطعة القماش الأبيض؛ فهي إشارة إلى نقاء الميّتة وعفتها وأنها "شهيدة" الظلم الاجتماعي و/أو السياسي.

الخاتمة والتعليق
لقد تابعت قراءتي لهذه الرواية على مدى بضع ساعات، لأجد فيها الكثيرة من الدهشة والدفع باتجاه ادراك مكنونها الجمالي، كل ذلك قد جاء بلغة رصينة جزيلة، وبعبارات وجمل مترابطة ومتصلة، أشبه ما تكون بفسيفساء متراصة في فناء قصر جميل. إلا أن الكاتب كان يطيل في الوصف، في بعض المشاهد، ويعمق الرمزية في مواقف أخرى. ولعل ما يبرر له ذلك، أنه يغرف من بحر اللغة التي يمسك بناصيتها بقوة؛ بما يمتلك من المصطلحات والمعاني والمترادفات. 

أما خاتمة الحديث، فإننا أمام رواية تشكل انتماء إلى مدرسة في السرد الروائي الذي يجمع بين الرمزية والواقع، بمستوىً عالٍ من الدقة الترابط، كما عبّر عن جدلية العلاقة الصميمية بين الإنسان وبيئته؛ وكأن لسان الحال يقول: من التراب وإلى التراب. وأما تغلب شخصيات الرواية على كاتبها، ففي ذلك قدرة فائقة على تصميم الشخصية الروائية، حيث قام الكاتب ببناء قالب الشخصية-البطل ثم ملأه بالمحتوى الذي أراده، بما يمتلكه من ثقافة واسعة، ومعرفة تاريخية، وفهم لما يجري حوله من أحداث، حتى وصل بنا إلى رواية "نساء أويا" التي نبارك لمكتباتنا باقتنائها ولقرائنا بالتمتع في التجوال بين ثناياها.