السبت: 18/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

أيها الناس, اذكروا قاضي القدس عمر (1588 م)

نشر بتاريخ: 24/02/2016 ( آخر تحديث: 24/02/2016 الساعة: 15:37 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

الحكمة في القول العامي: "الفرس من الفارس". وهكذا يبدو الأمر في القضاء. فما فائدة القانون سواء كان شرعيا أو نظاميا إن لم يكن القاضي ضليعا في فهم مواده وذو كفائة في قضائه ولا يخشى في حكمه ذوي المناصب والنفوذ. وحيث أن التاريخ ملئ بالعبر لمن يريد أن يعتبر, سنسرد فيما يلي وقائع حقيقية وموثقة في تاريخ القضاء في القدس. والهدف من ذلك هو أن نبين إصرار القاضي على تطبيق القانون دون تردد أو وجل من العواقب.

عين القاضي عمر لقضاء القدس للمرة الثانية في 996 للهجرة, 1588 م. وبموجب فقه القضاء الشرعي فإن أولى مهام أي قاض جديد هو تفقد المساجين في سجن المدينة وإطلاق سراح من لم يدان بحكم شرعي. وعليه ولدى تعيينه في التاريخ المذكور طلب القاضي عمر من حراس السجن أن يفتحوا الأبواب للقيام بتفقد المساجين. فرفض هؤلاء الانصياع للأمر. ولدى تمنع رئيسهم أمر القاضي بفتح الأبواب وبدأ في النظر في أحوال المعتقلين وأطلاق سراح البعض منهم. وعند ذلك قام نحو ثلاثون مسلحا من أتباع عبد الرحمن والذي كان مير لواء القدس (الحاكم العسكري) بالهجوم على مسؤولي المحكمة وتسببوا بإصابتهم بجروح. ولدى تدخل مسؤولين مدنيين من الاتراك والأهالي تم صد الهجوم واحتواء الموقف. وبعد ذلك طلب القاضي عمر من عبد الرحمن المذكور الحضور للمحكمة وتقديم تفسيرا لتصرفات جماعته. فما كان من مير اللواء سوى أن أنكر علمه بالحادث. فأمر القاضي باعتقال بعض المهاجمين للنظر في اعتداءهم. كما أمر بتدوين الواقعة والذي ذيل بتواقيع وشهادات جمع من أهالي القدس.

لم ينتهي الأمر عند هذه الواقعة. فبعد ثلاثة أشهر توجه عدد كبير من أهالي القدس الى محكمة المدينة وقدموا ادعائهم لدى القاضي عمر اتهموا فيها مير اللوا عبد الرحمن بإخذ أموالهم بغير سبب شرعي والاعتداء على بعضهم بالضرب وتهديده لهم بالقتل في حالة رفضهم الانصياع لمطالبه. فطلب القاضي عمر من عبد الرحمن المثول في المحكمة للرد على الدعوى. وعلى الرغم من تكرار الطلب إلا أن مير اللوا رفض الحضور. فعند ذلك قام القاضي عمر بإقفال المحكمة احتجاجا ورفع الأمر الى ذوي الصلاحية في القسطنطينية. كما أمر بتدوين ما حدث مذيل بتوقيع جمع كبير من أهالي القدس وأعيانها. وبالفعل أقفلت المحكمة لنحو شهر من الزمان لم يدون في سجلاتها سوى بعض عقود الزواج وحجج حصر للإرث والتي تمت على أيدي نوابه. وجدير ذكره أن القاضي عمر أعيد تعيينه لقضاء القدس وللمرة الثالثة بعد سنتين من الحادثة أعلاها, أي في 998 للهجرة, (1590 م). بيد أنه توفي قبل حضوره للمدينة.

"هذا آخر الأحكام, حرره الفقير عمر القاضي بالقدس الشريف سابقا"
توقيع القاضي وختمه على سجل المحكمة في 996 للهجرة, 1588 م, إشارة الى انتهاء فترة حكمه.

لم تكن حادثة القاضي عمر فريدة من نوعها في ذلك الزمان. فلدى الطلب المتكرر للقاضي أحمد (1023 للهجرة, 1614 م) من الصوباشي (رئيس الشرطة) الحضور للمحكمة للرد على دعوى صلاح بن عيسى (من سلوان) بشأن إقدامه على شنق والده دون حكم شرعي, رفض الصوباشي الانصياع للحضور. فما كان من القاضي إلا أن دون الأمر ورفعه لمن له الصلاحية في النظر في ذلك. أما قاضي القدس محمد بن محمود فقد أصدر حكمه في 1046 للهجرة, (1636 م) بشأن ملكية دار في حارة الشرف (المحاذية لحارة اليهود قديما) بشأن تعدي السباهي الحاج أسد على حقوق المدعو أحمد العلمي والذي كان يملك ثلث الدار. فما كان من الحاج أسد إلا أن رفض الانصياع مصرحا بأنه "لا يقبل حكم الشرع". ولدى الاستئناس برأي مفتي الحنفية في القدس آنذاك (عبد الغفار العجمي) صرح المفتي بأن الحاج أسد قد كفر ولذا ينبغي إعلام زوجته كي لا تبقى على ذمته كونه كافرا. فلم يقبل القاضي محمد رأي المفتي الغير ملزم له كون عدم قبول حكمه وإن كان مخالفا للشرع فإنه لا يعد كفرا. وأمر القاضي تدوين الواقعة ورفعها لمن لديه الصلاحية للنظر بها.

ويجدر السؤال هنا لماذا كان القاضي في الحالات الموصوفة أعلاه يرفع مثل هذه الأمور الى "من له صلاحية النظر". ومن كانت له صلاحية النظر هذه ؟ فللعلم لم يوجد في القضاء الشرعي في الدول الاسلامية السالفة ما يعرف اليوم بمحكمة الاستئناف. فمحكمة الاستئناف في فلسطين قد أوجدها الانتداب البريطاني ولم تكن معروفة في القضاء الشرعي من ذي قبل لأسباب فقهية سنذكرها لاحقا. أما "ديوان المظالم" والذي مثلا عرف بعمله في الدولة العثمانية وكذلك في الأندلس إبان الحكم الإسلامي فقد اختص في أمرين, أولهما سماع دعاوى بشأن شكاوى من عدم اتباع القاضي للإجراءات الشرعية (وهو لم يكن الحال أعلاه), والثاني التأكد من تنفيذ الأحكام الشرعية في حالة عدم مقدرة القاضي فعل ذلك. وعليه لجأ القضاة المذكورين أعلاه للديوان المذكور في القسطنطينية لتنفيذ أحكامهم.

أن حكم قضاة الشرع في الماضي كان ملزما ونهائيا ولا ينقض مع مرور الزمن. فالفقه الإسلامي يعتبر حكم القاضي مستندا الى نص صريح في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة. وفي حالة عدم توفر ذلك فإنهم اعتبروا حكم القاضي اجتهاد له ومبني على علمه ودرايته بالشريعة. بيد أن فقهاء المسلمين في كافة العصور أجمعواعلى عدم تفضيل اجتهاد ما في أمر ما عن اجتهاد آخر طالما كانا صادران عن علم ومعرفة وافية بالشريعة. وعليه فإن اللجوء الى قاض آخر لن يتأتى منه إلا اجتهاد آخر, حتى لو كان صادرا عن قاض في محكمة استئناف. لذا لم يكن هنالك داع لاستئناف الحكم طالما كانت إجراءات النظر في الدعوى متبعة للأصول الشرعية. وبالتالي حرص فقهاء المسلمين على التأكيد على وجوب شغل منصب القضاء فقط لمن كان ذوي علم ومعرفة وافية بالفقه. ففي الدول الإسلامية السالفة مثلا كان يتم إجراء امتحان لمن كان يتم ترشيحه لمنصب القضاء. كما منع من انقطع عن القضاء لأكثر من خمسة عشرة عاما من شغل المنصب. وكانت هذه الإجراءات مثلا مطبقة في العصر العثماني قبل وبعد التنظيمات التي أدخلت على القضاء في القرن التاسع عشر الميلادي. بقي أن نذكر بأن أي قاض جديد للمدينة كان لديه صلاحية مراجعة أحكام من سلفه من القضاة وإبطال أي حكم كانت إجراءآته مخالفة للأصول الشرعية للقضاء (مثل عدم تقديم البينة أو فساد في تقديم الشهادة أو مخالفة لإجراءات العقود وغير ذلك). وهنالك أمثلة على إبطال الأحكام في محكمة القدس استندت الى مثل هذا الإجراء.

كان للقاضي سجنا خاصا به في القدس لإيواء من تم إدانته بحكم شرعي. وكان يشرف على المساجين المحضر باشي (رئيس محضرية المحكمة). ويقع هذا السجن ومنذ قرون طويلة في أحد الأبنية التابعة لوقف المارستان الصلاحي والواقعة في الزاوية الشرقية/الجنوبية للساحة الواسعة المؤدية الى المدخل الرئيسي لكنيسة القيامة. ويوجد فوق السجن مإذنة تم بناؤها في العقود الأخيرة للعصر المملوكي كانت تعرف "بمنارة الحبس". وهذه المإذنة ما زالت قائمة الى يومنا هذا. وكان هناك سجن آخر في قلعة المدينة (قرب باب الخليل) ولكنه كان تابعا للحاكم العسكري ويشرف عليه دزدار القلعة.