الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

شهيدة الحقد الأسود

نشر بتاريخ: 08/04/2016 ( آخر تحديث: 08/04/2016 الساعة: 17:33 )

الكاتب: عطا الله شاهين

لمْ يكنْ مِنْ طبعِ تلك المرأة التّوسل، لكنّها أرادتْ أنْ تعيلَ أُسرتها بعد أنْ فقدتْ زوجها ذات يومٍ في حربِ مجنونة ما زالتْ مستمرة، فكانتْ تلك المرأة كعادتها تسيرُ لمسافاتٍ طويلة لبيع لبنٍ من بقراتها في أحدِ الأحياء الهادئة، والبعيد مسافة عنْ جنونِ الاشتباكات، ومع مرور الوقت تعوّدَ أهل ذاك الحيّ عليها من خلال شرائهم الدّائم للبنها الطّازج، وظلّوا يشتروا منها بلا انقطاعٍ.. فهي كانت تأتي بسطلين في كل صباحٍ وتحملهما إلى ذاك الحيّ، ولأنّها كانتْ مع أهل ذاك الحيّ صادقة وأمينة جعل أهل ذاك الحي يحبّون لبنها الطازج، غير أنَّهم لم يعلموا اسمها الحقيقي، ولمْ يسألوها عن اسمها البتّة، لذا كانوا يُنادونها ببائعةِ اللبن.
وذات يوم، بينما كانتْ عائدة إلى منزلها، جلستْ بائعة اللبن القُرفصاء على أحدِ الأرصفةِ، وكان العرقُ يرشحُ منها كيْ تلتقطَ أنفاسَها، وخطرَ في ذهنِها المُنهك سؤال ألحّ عليها منذ مدّة : ماذا لو سقطتْ فوقها الآن قذيفة؟ فالموْتُ ألآتٍ من السّماء لا يفرّق بين صغيرٍ أو كبير، أو فقير أو ميسور، فالموتُ يزرعُ الذَّعرَ والهلعَ في كُلِّ مكان .. بقي ذلك السُّؤال يتردّد صداه في باطنها، حينما كانتْ سارحة في أفكارها. وقالتْ قي ذاتها : شبحُ الموْت هنا أراه يتهدّد الجميع، فما أصعبَ أنْ ينتظرَ المرءُ موْتَه في أيّة لحظة.
كان بعضُ المارّة يتهامسون ويشيرون بأصابعهم نحو السَّماء، وبغتةً سمعَ المارّةُ دويّ صفير عالٍ ومُخيف، وبدأتْ رقابُهم تشرأب وتنظرُ صوب السّماء، وإذا بصوتِ انفجارٍ كبيرٍ صمّ لحظتها آذان المتواجدين في المنطقة..
وبعد الانفجارِ ساد جوٌّ من الصّراخ، وشرعَ الأطفالُ بالعدو بحثاً عن مكانٍ آمنٍ هرباً من قذائفِ الحقدِ الأسود، وارتفعتْ سُحبُ الدُّخان في المكان، والدِّماء كانتْ تملأ الطُّرقات والأرصفة، والجثثُ عجّتْ بالمكان، فالأشلاء والدَّماء هناك امتزجتْ مع بعضها البعض، وتجمّع الأهالي ليسعفوا الجرحى، وشاهدوا على الرّصيف جسداً ليّناً، وقدْ تحوّل إلى أشلاءٍ مُقطّعة، لقد فاضتْ روحها البريئة، صرخَ صوتُ طفلٍ من بعيدٍ إنّها بائعةُ اللبن، ولكنْ يا الهي ما اسمها؟ وما كُنيتها؟
في ذلك اليوم الحزين والدامي وجدوا بجانبها بضع ليرات مُلطَّخة بالدِّماء، وكانتْ تفوحُ مِنها رائحةُ اللبن، فكُلُّ مَنْ عرفها دمعَ عليها، وقام النّاسُ بلملمةِ أشلاء جسدها المتناثر، ودُفنتْ في قريتها المجاورة، ولم تعدْ تأتي كعادتها إلى ذاك الحيّ، فانشغلَ بالُ أهل ذاك الحيّ عليها، فأطفالهم يريدون لبناً، فراح عدة رجالٍ من أهل ذاك الحيّ لكيْ يسألوا عنها في قريتها، وحينما وصلوا، علموا بأنّها استشهدتْ قبل أيامٍ، فبكوا عليها، وحزنوا كثيرا، وعادوا إلى حيّهم وظلّوا يتذكّرونها..