الإثنين: 27/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

مؤتمر "هرتسيليا": إذا كنت لا تستطيع هزيمتهم، انضم إليهم!

نشر بتاريخ: 18/06/2016 ( آخر تحديث: 18/06/2016 الساعة: 15:51 )

الكاتب: د. حسن أيوب

لم تخمد حتى اللحظة حالة الهيجان الإعلامي والاحتجاج على مشاركة العرب والفلسطينيين في مؤتمر "هرتسليا" الاستراتيجي، والذي يختص في تقييم التحديات الاستراتيجية التي تواجه الدولة العبرية. يبحث المؤتمر كذلك السيناريوهات والبدائل التي يمكن أن تنتهجها اسرائيل للتصدي لتلك التحديات. المؤتمر إذا هو منتدى يهدف لمنح هذه الدولة القدرة على التفوق الاستراتيجي. 

جزء من الاحتجاج جاء من زاوية مبدأية، وهو محق تماما، ترى في مشاركة العرب وبخاصة الفلسطينيين (بمستوى قمة النظام السياسي الفلسطيني - م.ت.ف، إذا سلمنا بأنها لا زالت كذلك) تناقضا جوهريا مع الواقع الذي يعيشه الفلسطينيين: تحت الاحتلال والمنظومة الكولنيالية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل نظام عنصري بامتياز في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948. كيف يمكن بهذه الحالة مشاركة من يسلب حريتك وكرامتك وأرضك وتعينه على تحصين موقه الاستراتيجي، وكأنك تعمل ضد مستقبلك؟ وهنالك من يرى محقا –وإن كان في إطار أقرب للرومانسية والتفكير الرغائبي- بأن الأولى والأجدى هو عقد مؤتمر فلسطيني استراتيجي ليشكل أساسا للرد الفكري والسياساتي على سيناريوهات وخيارات الدولة العبرية. الملاحظ هنا هو أن المناطق الفلسطينية المحتلة تشهد سنويا سيلا من المؤتمرات التي تتناول الخيارات الاستراتيجية الفلسطينية. لكن لم يحدث أن تحولت هذه المؤتمرات إلى حدث ممأسس وذو تأثير على شاكلة مؤتمر "هرتسيليا" الصهيوني. 

يبقى السؤال: لماذا هذا التهافت الفلسطيني والعربي للمشاركة في مؤتمر "هرتسيليا"؟
برأينا تعكس هذه المشاركة تغييرا عميقا في التفكير الاستراتيجي العربي والفلسطيني لجهة التسليم للواقع والتعايش معه، على قاعدة: "إذا كنت لا تستطيع هزيمتهم، فعليك أن تنضم لهم"! عوضا عن البحث في كيفية التغلب على هذا الواقع. ليس من المستهجن على بعض الفلسطينيين و"بقرار سياسي" –على حد تعبير عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة غسان الشكعة- أن يشاركوا في المؤتمر، فقد قطعنا شوطا كبيرا ومن خلال استراتيجية معلنة في تعميق تبعيتنا وارتباطنا بدولة الاحتلال على كل المستويات. الفرق هو أن ما كان مدعاة للسرية والخجل في الماضي، بات علنيا وتقدم له التبريرات والمسوغات، بل إنك اذا انتقدته وهاجمته ستتهم بالقدح والذم والتشهير. أليس هذا ما حصل مع العميد يونس الرجوب؟ بتنا نعتبر مقاطعة الاحتلال، أو وقف العلاقة والتنسيق معه ضربا من الغباء وقصر النظر والجهل بالواقع، وبمطلق الأجوال لا جدوى منه كما عبر عن ذلك المستوى السياسي الأعلى في منظمة التحرير على لسان عضو في لجنها التنفيذية. 

ما العمل؟ إذا سألتهم أجابوك بأننا سنغير السياسة والمجتمع في اسرائيل من خلال ما يسمى "لجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي"! لم يحصل قط في تاريخ حركات التحرر الوطني أن اتبعت مثل هذه الاستراتيجية العاجزة، إذ إن عبء تبرير الذات لا يقع على عاتق الخاضع للاستعمار والاحتلال، بل على كاهل من يمارسهما. نحن يا سادة نحاول أن نجلس التاريخ على رأسه. ثمة فرق جوهري بين من يحاول إحداث تغيير في توجهات المجتمع الذي يمارس الاحتلال والاستعمار، وبين من يسعى لتبرير حقوقه –وربما وجوده برمته- أمام النخبة السياسية في هذا المجتمع. 

على المستوى العربي، فإن مؤشرات التقارب مع اسرائيل لا تخفى على أي مراقب مهتم. ليس التصويت لصالح رئاسة اسرائيل للجنة القانونية في الأمم المتحدة اخرها وأكثرها فظاظة. وهذا التطور تلعب فيه خياراتنا التحالفية في المنطقة دورا محوريا. لقد سبق هذه الواقعة تغيرات استراتيجية بمنتهى الخطورة. دعونا نشير لبعضها: إعادة (أو ربما بيع) جزر صنافير وتيران للملكة العربية السعودية وَضَع المملكة على تماس استراتيجي مباشر مع اسرائيل. وذهب بعض الخبراء الاستراتيجيين لاعتباره إعادة صياغة وتوسيع هادئ لمعاهدة "كامب ديفيد". انعكس ذلك فورا على موقف اسرائيل، التي أعلنت عقب هذا الحدث بأن هضبة الجولان السورية ستبقى بيد اسرائيل للأبد، وتبلور على شكل مبادرة مصرية للتسوية تقوم على استرضاء اسرائيل باسم "السلام الدافيء" التي قدمها الرئيس المصري. من ذلك أيضا ظهور الوفود الاسرائيلية في محافل رياضية، واقتصادية، وسواها في عدد من الدول العربية التي لا تقيم علاقات علنية مع اسرائيل. ربما كان الأهم بين هذه التغيرات الاستراتيجية التقارب العلني بين مواقف اسرائيل وعدد من الدول العربية حول مساءل مفصلية في المنطقة أهمها العداء المشترك لإيران، والتوافق حول منهجية وأولويات التعامل مع "داعش" والنظام السوري، وكذلك الموقف من حركة حماس.

بات من الواضح بأن كل المساءل الاستراتيجية الراهنة في المنطقة تبدأ وتنتهي عند الرؤية الاسرائيلية. والحال هذه فإننا أمام نبوءة تحقق ذاتها بالنسبة للذين يسهمون في تعميق هذا التغير ما داموا يتبنون منطق "انضم لهم!"، كما تظهر من سلوكهم. الفلسطينيون هم أقرب من يستشعر هذه التغيرات، ولكنهم بذات الوقت يلعبون دور القابلة (الداية) التي تمنح الشرعية للسلوك العربي عبر إقدامها على فتح باب التطبيع على مصراعيه. التطبيع يبقى تطبيع حتى لو تم باسم القرار السياسي والمصلحة الوطنية، أو تحت مبرر ضعفنا، فهو سيزدنا انكشافا وضعفا، وسيستخدم ذلك في تبير مزيد من التطبيع وهكذا دواليك إلى أن يصبح شعار "إن لم تستطع هزيمتهم، انضم إليهم" سياسة رسمية. نبقى بانتظار قبول أو عدم قبول اسرائيل بالانضمام إليها، ولا يبدو حتى الان أنها تريد ذلك، إلى أن يتحقق لها سلام أكثر من "دافيء" (ربما حميم) مع العرب، نكون نحن جسره.
______________________________________________________
* أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية